رشا سلامة وأحمد العتوم
ما يزيد على سبعة أعوام، هو عُمر زواج المزارع الباكستاني خالد قاسم، بحصيلة أربعة أطفال، لا يملك أياً منهم أوراقاً ثبوتية؛ ذلك أن عقد زواج الوالدين غير موثّق في دوائرٍ رسمية، بل على يد مأذون من مواطنيه.
بعربية ركيكة، يقول قاسم إن لا قدرة لديه على تحمّل التكاليف المترتبة على توثيق الزواج؛ إذ إن نقل كفالة الزوجة ومن ثم تثبيت العقد وتسجيل المواليد، يُرتّب عليه تبعات مادية فوق طاقته.
لا يخفي قاسم شعوره بعدم الارتياح و”الخوف”؛ ذلك أنه يخشى على مصير أطفاله، كما يقول؛ إذ لا تعليم ولا خدمات صحية متاحة؛ لضيق ذات اليد من جهة، ولعدم توفر أوراق ثبوتية لديهم من جهة أخرى.
ليس قاسم وحده؛ إذ ثمة من يعاني المشكلة ذاتها في الجالية الباكستانية، التي قدِم معظم أفرادها للأردن في مستهلّ السبعينات؛ لغايات العمل في الزراعة.
أم زيد، واحدة ممّن اضطررن لولادة أطفالهن في الخيمة، عوضاً عن المستشفى؛ ذلك أنها لم توثّق عقد زواجها؛ لتعذّر ذلك مادياً، ما يعني أنه ليس بوسعها التوجّه لأي مركز صحي؛ إذ ما تزال مسجّلة كعزباء.
لعلّ أكثر ما تخشاه أن تضطر في يوم للسفر، فتعدم الحيلة في اصطحاب أطفالها؛ لعدم وجود أي وثائق خاصة بهم.
تتساءل أم زيد إن كانت هنالك إمكانية لإعفائها وزوجها من التكاليف ومن ثم الضرائب المترتبة على نقل الكفالة وتوثيق عقد الزواج وتسجيل الأطفال، متبعة ذلك بقول إنها لم تعرف بلاداً غير الأردن التي وُلِدَت بها ونشأت ومن ثم تزوجت وأنجبت.
رشيد فيروز، استطاع بدوره تدارك المشكلة، بعد مضيّ ثمانية أعوام على زواجه. يقول إنه تدبّر أمر التكلفة المادية، فوثّق عقد الزواج واستصدر شهادات ميلاد لأطفاله الستة وجوازت سفر أيضاً.
على الرغم من ذلك، لم يُلحِق فيروز أطفاله في المدرسة، ولا حتى الكُتّاب الذي أسّسه معلم باكستاني في منطقة الكرامة. عند سؤاله عن السبب، اكتفى بالصمت.
غولبهار محمد عمر، اجترح حلاً من نوع آخر؛ إذ اختار عدم الزواج؛ تجنباً للمصير الآنف.
يقول إنه لا يملك نقوداً كافية لعقد الزواج ونقل الإقامة وما إلى ذلك من تكاليف تتعلّق بالأطفال، ما دفعه للإحجام عن هذه الخطوة، برغم إلحاح والدته، التي أتت للأردن في نهاية الستينات، والتي لم تعد للباكستان غير مرة واحدة فقط، كما يقول.
يسهم محمد عمر حالياً في تكاليف معيشة والدته وأشقائه المتزوّجين، وتحديداً ما يتعلّق ببند الأطفال، بحسبه.
في وقت لم تقدم فيه إدارة الإقامة والحدود ودائرة قاضي القضاة تصريحات رسمية حول الأمر؛ بذريعة عدم توفر أرقام وإحصاءات دقيقة حول أعداد هذه الجالية وأحوالهم الشخصية، كانت ثمة تصريحات جانبية رفض أصحابها تسجيلها باسمهم، مفادها أن الجهات الرسمية تعلم عن هذه الظاهرة وتغضّ النظر ذلك أنها ستكون مضطرة في حينها إما على إجبارهم على تصويب أوضاعهم أو ترحيلهم لبلادهم.
“ما الذي بوسعنا فعله إن لم يأت أحد ما ويسجل بياناته بنفسه؟ كيف يمكننا مساعدته؟”، يتساءل مصدر مسؤول في إدارة الإقامة والحدود، طلب عدم ذكر اسمه، مكملاً إن متابعة الكل تتعذّر؛ لتوزّعهم في مناطق عدة، بيد أنه يستدرك “لكن هذا لا يعني أننا لا نعرف عن الظاهرة”.
السفارة الباكستانية لم تقدم معلومات واضحة حول الأمر، بل أبلغتنا جهات رسمية أننا بعد استفسارنا من مسؤوليهم، توجهوا بطلب رسمي لمعرفة أرقام رعاياهم بدقة.
مساعد السفير الباكستاني في عمّان مسعود جول، يقول إن معظم أفراد جاليته يملكون أوراقا ثبوتية كما أنهم سُجّلوا رسمياً، بحسب علمه، مكملاً “الفقر هو العامل الأكبر في حال تهرّب أحد من التسجيل”.
يقول جول إن أفراد الجالية الباكستانية في عمّان سيضطرون، عاجلاً أم آجلاً، للقدوم للسفارة واستصدار جوازات سفر، في حال همّوا بالقيام بأيّ معاملة كانت، مكملاً “جدّدنا خمسة آلاف جواز سفر، منذ حوسبة نظام الجوازات في السفارة الباكستانية، في العام 2015″، متوقعاُ قدوم معظمهم في غضون العامين القادمين؛ لاستصدار جوازات جديدة.
“لدينا في الأردن 15 ألف باكستاني، 13 ألف منهم في الأغوار وحدها”، يقول جول، معرّجاً على الحالات التي تتدخل فيها السفارة للمساعدة، مثل بعض الظروف الصحية الحرجة “وليس جميعها”، وكذلك بعض إشكالات تصاريح العمل والجوازات، “بيد أن الإمكانات محدودة، في نهاية المطاف”.
فيما يلي تقرير مصوّر عن عدم توثيق عدد من أفراد الجالية الباكستانية، الذين يقطنون الأغوار، عقود زواجهم وميلاد أطفالهم؛ لضيق ذات اليد:
وبحسب جول، فإن 99 ٪ من الباكستانيين الذين يقطنون الأغوار يعملون في الزراعة؛ إذ قدموا منذ نهاية الستينات ومطلع السبعينات؛ للنهوض بالمنطقة زراعياً.
في هذا السياق، يظهر غياب الأرقام الدقيقة أيضاً، إذ تشير وزارة العمل إلى دخول 7456 باكستاني عبر إدارة الإقامة والحدود، منذ العام 2007 حتى العام 2016، فيما لم تُسجّل تصاريح عمل لأكثر من 347، أي ما نسبته 1.10 % فقط.
يعلّق على الآنف، الناطق باسم وزارة العمل محمد الخطيب، قائلاً “لعلّ التفسير الأقرب للمنطق هو أن هؤلاء العمّال يستصدرون تصاريح عمل عند دخولهم، بيد أنهم لا يعودون لتجديدها لاحقاً؛ للتهرّب من دفع التكاليف المترتبة”، مستدركاً “سنعمل على متابعة ذلك من خلال تكثيف حملات الكشف؛ لضمان تصويب أوضاعهم، برغم صعوبة ذلك في مرات لتفرّقهم جغرافياً”.
يُظهر الرسم البياني التالي توزيع المواليد الباكستانيين، المسجّلين رسمياً، منذ العام 1996، على محافظات المملكة، كما يُظهر الرسم البياني الثاني تدنّي نسبة تصاريح العمل المستصدَرة بين العامين 2007 و2016 :
ويُلاحَظ تجمّع الجالية الباكستانية في منطقة الأغوار، التابعة لمحافظة البلقاء، بنسبة تفوق 87 % من المجموع الكلّي للباكستانيين في الأردن، وهو ما يظهر في الخريطة التالية، لتأتي العاصمة في المرتبة الثانية، ولتكون المستويات الأدنى في المحافظات الجنوبية:
هذا وتشهد منطقة الأغوار، التي تمتد على مساحة 1500 كم مربع، قضايا عالقة عدّة من قبيل الفقر والبطالة؛ إذ إنها تضم 42 ألف عامل وافد، أي ما يشكّل 38 % من مجموع سكّان المنطقة النافعين اقتصادياً، لتتربّع الزراعة على رأس هرم وظائف الأغوار، ما يجعلها تُسهم بما نسبته 48 % من إنتاج المملكة للخضروات.
فيما يلي، توضيح مصوّر للجانب الزراعي لدى الجالية الباكستانية في الأغوار:
بِوسع الزائر لتجمّعات الباكستانيين في الأغوار أن يلحظ نمط عيشهم، حتى اللحظة، في خيام طارئة، برغم ولادة جيلين، وفي حالات ثلاثة أجيال، لم تعرف غير الأردن بلاداً.
لعلّ السببين الرئيسين هما ما يُصطلَح عليه “رحلة الشتاء والصيف”؛ إذ يرحل رعايا الجالية الباكستانية لمناطق الرمثا والمفرق وغيرها صيفاً ليعودوا للأغوار شتاءً، بالإضافة لعدم توفّر التكلفة المادية التي تعينهم على التملّك.
يقول علي حيدر، الذي يعمل في الزراعة مع أفراد عائلته الممتدة، إنهم أتوا للأردن منذ كان عمره أسبوعاً واحداً في العام 1981، كما أنه لم يعرف بلاداَ غيرها حتى الآن.
يعيش حيدر في إحدى الخيام التي تشكّل تجمعاً لعائلته، التي يهرع أفرادها جميعاً لأحد الحقول المُتضَمّنة من مالك أردني، منذ الصباح الباكر حتى ساعات المساء الأولى، ليذروا سيدة واحدة منهم؛ لتجالس الأطفال، الذين لا يذهب أي منهم للمدرسة.
مصطفى باكستاني، الذي وُلِد في الأردن في مطلع السبعينات، هو أحد العاملين في القطاع الزراعي في الأغوار، أيضاً. يصف تصاريح العمل بـ “جريمة في جريمة”؛ ذلك أنها باهظة الثمن بالنسبة لأفراد جاليته.
يشعر باكستاني بلُبس في هويته؛ إذ يقول إن مواطنيه في الأردن ما عادوا أردنيين ولا باكستانيين؛ ذلك أنهم لم يزوروا الباكستان، وفي الوقت ذاته يُطلب منهم بعد هذه الأعوام إحضار كفيل.
حاول خليل رمضان، الذي تقطن عائلته الأردن منذ أربعين عاماً ونيف، العودة للباكستان زائراً لمدة شهر، بيد أنه شعر بالغربة، كما يقول، فعاد أدراجه للأردن بعد مضي خمسة عشر يوماً.
يشكو رمضان من غياب النواحي الخدماتية في تجمّعات جاليته، وهو ما تذهب إليه أم هادي، التي تقول إن الخيام تفتقر لأي مرافق تابعة كدورات المياه، ما يجعلها تتّجه للعراء، كباقي مواطنيها؛ لقضاء الحاجة حتى وإن كان هذا ليلاً، مكملة إن الخيام لا تقيهم برد الشتاء أو ماء المطر.
ولعلّ أكثر ما يقلق عبد الغفور عبد الستار، المزارع هو الآخر، عدم وجود مدارس ينتظم فيها أطفال الجالية الباكستانية، على الرغم من إمضاء عائلته خمسة وعشرين عاماً في الأردن.
في الفيديو التالي، محاولة للإضاءة على بعض جوانب عيش الجالية الباكستانية في منطقة الأغوار:
وحَظِيَت العلاقات الأردنية- الباكستانية باهتمام رسمي لافت، منذ نهاية الستينات، وتحديداً عند عقد قران سمو الأمير حسن بن طلال على سمو الأميرة ثروت محمد إكرام الله، المتحدّرة أصولها من عائلة باكستانية.
يُظهر التسلسل الزمني التالي بعض محطات العلاقات الأردنية- الباكستانية:
خالد قاسم، ليس حالة استثنائية بين مواطنيه الذين يقطنون الأغوار؛ إذ هو أحد الباكستانيين الذين آثروا العيش بلا استصدار أوراق ثبوتية لأطفالهم، إلى أجل مشروطٍ بتيسّر الوضع المادي يوماً ما.
فيما يلي قصة خالد قاسم المصوّرة: