روى لنا أبو عزّام، الذي ارتكب جرائم عديدة، ودخل السجن لأكثر من سبع مرات، وتقدم للعلاج من المخدرات طواعية لأربع مرات، قصصًا عن صراع رافقه طويلًا، إذ كان يحاول كثيرًا العدول عن سلوكه الجرمي، إلا أن شعوره بالظلم على حد وصفه كان يعيده إلى الجريمة في كل مرة، إذ قال: ” كنت بدي أنتقم من المجتمع اللي كل ما جيت أشتغل ألقى حالي مطرود، عشان هيك صرت أنتعش لما الناس صاروا يخافوا مني، ويحكوا أبو عزام زعيم المنطقة “.
لم يكُن أبو عزام الذي التقيناه ليحكي لنا تجربة شخصية في العود الجرمي، يدرك أنه سيتغلب على سلوكه الجرمي بعد ثلاثة عشر عاما قضاها في السجن، إذ عبر لنا مرارًا عن رغبة كبيرة لديه اليوم. وهي أن ينجح في ثني مجرم واحد على الأقل عن سلوك الإجرام الذي جعله متعبًا، و”منبوذًا وعبدًا لشهوات زائفة” لسنوات طويلة، على حد وصفه. في البودكاست الآتي يروي لنا أبو عزام ملامح قصة طويلة عانى فيها من المرار الكثير.
التقينا أيضا النزيل السابق أبا سند الذي سُجِن لثلاث مرات متتالية نتيجة عدة قضايا احتيال مالي، وقال لنا في بداية حديثه: “شو بدي أحكي عن عمري اللي قضيت نصه بالسجن، كنت مفكرها شطارة، بس اليوم تعبت، خلص خلوني أعيش، بدي أعيش”.
وأضاف أبو سند، بدأت قصتي بعد أن عملت في إحدى شركات الملابس التي كانت تستورد كميات كبيرة من الملابس لتجار التجزئة، وبعد أن أعجب أحد ملاك هذه الشركة بمهارتي في التفاوض مع التجار، وتحقيق مبيعات أكبر. أوكل إليّ مهمة التفاوض مع التجار على الطلبيات، لكن الذي حصل حينها أنني وجدت لنفسي مسوغًا لاختلاس جزء من هذه الأموال؛ فقد كنت أرى أنني مظلوم، وأستحق راتبًا أعلى مما يمنحني إياه صاحب الشركة لقاء المبيعات التي حققتها، فدفعني الطمع للاحتيال عليه على مدار عام، لكن انكشف أمري، ودخلت السجن، وخرجت بعد ثلاث سنوات محطما لا أملك قوت يومي، ولم أجد فرصة عمل، وشعرت أن المجتمع يرفضني، لذلك قررت أن أنتقم بطريقة أو بأخرى، وأصبح الاحتيال هو مصدر رزقي الذي أعادني إلى السجن مرتين أخريين، إحداهما بعد وقوعي في شباك المخدرات. البودكاست الآتي يروي فيه أبو سند قصته.
ما هو العَوْد الجرمي، ولماذا يجب أن نهتم؟
العود الجرمي -كما درجت تسميته محليا-، أو مفهوم النكوص العالمي (recidivism) هو أحد المفاهيم الأساسية في أنظمة العدالة الجنائية. ويشير هذا المصطلح بحسب المعهد الأمريكي الوطني للعدالة إلى عودة الشخص إلى السلوك الجرمي مرة جديدة أو أكثر بعد إدانته بجريمة سابقة، ودخوله السجن، سواء خضع إلى تدابير تأهيلية داخل السجن أم لا، وغالبا ما ارتبط هذا المصطلح بعلم النفس، ثم تم استخدامه بشكل أوسع للتعبير عن عودة أو رجوع مدمني المخدرات بعد تلقيهم برامج تأهيلية معينة، وانقطاعهم لفترة عن المادة المخدرة. واليوم تعد الانتكاسة الجرمية من أخطر التحديات التي تواجه أنظمة العدالة الجنائية، إذ تكلف دافعي الضرائب الأمريكيين على سبيل المثال ما لا يقل عن تريليون دولار كل عام، أي ما يعادل حوالي ٥٪ من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة الأمريكية حسب منصة (Wise Voter) الأمريكية المعنيّة بتقديم بيانات ودراسات عن السياسات الحكومية للناخب الأمريكي.
محليا، أكبر دراسة تحليلية وإحصائية نُشرت حول العود الجرمي، كانت في تموز عام 2021 من قبل وزارة العدل، واستمر العمل عليها لثلاثة أعوام، وحملت عنوان “الجريمة والعود الجرمي واستراتيجيات المواجهة“. هذه الدراسة بينت أن ٣٩.٢٪ من النزلاء عادوا لارتكاب جرائم أخرى بعد الإفراج عنهم خلال أربع سنوات من الإفراج، أي أن أربعة أشخاص من أصل عشرة عادوا إلى السجن خلال هذه المدة، وهذا الرقم بحسب الدراسة يؤشر على وجود خلل، وعدم تكامل في الاستراتيجية الوطنية للتصدي للعود الجرمي التي وضحها المُشرّع الأردني مبكرا في قانون مراكز الإصلاح والتأهيل رقم ٩ لسنة ٢٠٠٤، وأناط هذه المهمة بما سمي اللجنة العليا للرعاية اللاحقة حسب المادة ٣١ من ذات القانون والتي تضم كلًا من: وزارة التنمية الاجتماعية، ووزارة العدل، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الصحة، ووزارة الأوقاف، ومؤسسة التدريب المهني، وإدارة مراكز الإصلاح والتأهيل.
فكرة العقاب أم فكرة الإصلاح؟
ترى المديرة التنفيذية لمركز العدل للمساعدة القانونية هديل عبد العزيز، أن قضية العود الجرمي لم يتم إيلاؤها الاهتمام الكافي رغم التبعات الخطيرة لها، وأن “مجتمعنا يؤمن بفكرة العقاب أكثر من الإصلاح”، فناهيك عن الأبعاد المجتمعية والحقوقية لهذه القضية التي تؤثر على حالة السِلم المجتمعي ومعايير حقوق الإنسان، هناك أيضا تبعات اقتصادية لتكرار الجرائم وحبس المُدانين دون النظر لخطورتهم، وقابلية تأهيلهم، إذ كشف مدير الأمن العام السابق اللواء أحمد الفقيه خلال لقاء جمعه مع رؤساء منظمات وهيئات حقوقية بأن تكلفة النزيل الواحد في مراكز الإصلاح والتأهيل تتجاوز ٧٥٠ دينارا شهريا من خزينة الدولة.
ما حجم العَوْد الجرمي في الأردن مقارنة بالسياق العالمي؟
عند وضع هذه القضية في سياقها العالمي نجد أنه من الصعوبة إجراء مقارنات بين الإحصائيات الدولية للعود الجرمي، فلكل نظام قضائي فهم مختلف في كيفية تعريف العَوْد وإحصائه، فأحيانا تعدّ بعض السلطات القضائية مجرد إعادة الاعتقال دون الإدانة عودة إلى الجريمة، وأنظمة أخرى تخضع بعض السجناء المُدانين لإطلاق سراح مشروط، يمكن خلاله عدّ الانتكاسة عودًا جرميًا، مع كل هذا يمكن القول أنه عند مقارنتنا للكثير من الإحصائيات والمعايير الدولية، سنجد شبه توافقٍ على أن النرويج لديها أقل معدل انتكاسة في العالم وهو ٢٠٪ من مجموع نزلائها المفرج عنهم، بينما في الولايات المتحدة الأمريكية، وبحسب بيانات مكتب إحصائيات العدالة الجنائية (BJS) التابع لوزارة العدل الأمريكية عن أنماط العودة إلى الإجرام للسجناء السابقين خلال فترة متابعة مدتها 9 سنوات وصلت نسبة من أعيد اعتقالهم إلى ٧٦,٦٪ من السجناء المفرج عنهم خلال فترة ثلاث سنوات من تاريخ الإفراج، وعادت هذه النسبة لتقل إلى حوالي 50%، ويعتبر مكتب إحصائيات العدالة الجنائية أن هذه الأرقام كبيرة بالنسبة للأنظمة الديموقراطية التي تصرّح عن بياناتها بشكل دوري، مع الإشارة إلى وجود الكثير من الدول التي تتحفظ على البيانات المتعلقة بالسجون لديها.
تقول دراسة بحثية لجامعة أكسفورد، قام بها الباحثان “سينا فاضل”، و”أكيم وولف” نشرت لأول مرة عام 2015، وأُعيد تحديثها بعد ثلاث سنوات، أنه من المفيد جدا مقارنة معدلات النكوص بين البلدان التي توفر بيانات العَوْد الجرمي، لتقييم الفعالية النسبية لسياسات العدالة الجنائية المختلفة للدول، إذ بحثت هذه الدراسة قضية العود الجرمي بشكل شامل على المستوى العالمي، وتناولت 20 دولة توفر مثل هذه البيانات بمعايير واضحة لمحاولة المقارنة بينها ضمن منهجية تراعي الاختلاف بين أنظمة العدالة الجنائية. وحملت الدراسة عنوان (مراجعة منهجية لمعدلات العودة إلى الإجرام في جميع أنحاء العالم)، الشكل الآتي يوضح أبرز الدول التي تضمنتها الدراسة بالمقارنة مع الأردن.
هل البرامج التأهيلية داخل السجون فاعلة؟
مدير إدارة مراكز الإصلاح والتأهيل العميد فلاح المجالي، قال لنا إن مديرية الأمن العام أدركت مبكرًا خطورة العود الجرمي، وسعت “لأنسنة” العمل الإصلاحي، فلم تكتفِ بكونها مكانًا لتنفيذ العقوبة فقط، بل عملت على الموازنة ما بين جوانب العدالة التي تقتضي تقديم ما يمكن من برامج للدعم النفسي، وبناء قدرات النزلاء، وتعديل سلوكهم وفق القانون، كاشفًا لنا عن وجود ما يزيد عن 21 ألف نزيل حاليًا داخل مراكز الإصلاح والتأهيل التي تقتصر سعتها على 13200 نزيل.
وتابع المجالي قائلًا إن مراكز الإصلاح والتأهيل تحوي منذ سنوات على مشاغل متقدمة للتدريب على إنتاج الأثاث المعدني والخشبي في مركزي السواقة والموقر1، والخزف والفخار في مركز أم اللولو، والمنسوجات المطرزة والإكسسوارات والحلويات والمخبوزات في مركز إصلاح وتأهيل النساء، واللوحات الفنية التي يرسمها نزلاء في مرسم الفن التشكيلي في مركز إصلاح وتأهيل إربد، ومشغل للحقائب الجلدية افتتح مؤخرًا في مركز إصلاح وتأهيل الزرقاء، بالإضافة إلى لوحات الطرق على النحاس التي تصنع في مركز إصلاح وتأهيل ارميمين، بالإضافة إلى محمص المكسرات، ومشغل الحلويات، ومشروع الإنتاج النباتي والحيواني المقام على مساحة واسعة في مركز إصلاح وتأهيل السواقة، إذ يُمنح النزلاء في نهاية البرامج التدريبية شهاداتٍ صادرة من مؤسسة التدريب المهني، لا يُشار فيها لتلقيهم التدريب داخل مراكز الإصلاح والتأهيل؛ تجنبًا لأي وصمة اجتماعية قد تواجههم بعد الإفراج.
من جانب آخر أكدت مفوض الحماية في المركز الوطني لحقوق الإنسان الدكتورة نهلة المومني, أن عملية تصنيف النزلاء داخل مراكز الإصلاح تحتاج إلى إعادة نظر؛ لما لها من دور قد يؤدي إلى اكتساب سلوكيات جرمية من النزلاء الآخرين، أو تعرفهم على أشخاص قد يدفعون بهم إلى سلوك الإجرام، مشيرة إلى أن عملية إصلاح النزيل تبدأ من لحظة دخوله السجن، ودراسة شخصيته بشكل يمكن معه تصنيفه وفق اعتبارات قانونية، ونفسية، واجتماعية تحول دون اختلاطه بالعديد من النزلاء الأكثر خطورة، وبالتالي اكتسابه لبعض الخصائص أو الأساليب الجرمية الجديدة، إلا أن الحديث عن عملية تصنيف مثالية في ظل اكتظاظ السجون، يجعل منها مهمة صعبة.
متجر إلكتروني ومعرض يبيع مشغولات النزلاء (e-shop.psd.gov.jo)
بحسب بيان سابق صدر عن مديرية الأمن العام فإن التوجه العالمي إبان جائحة كورونا للتجارة الإلكترونية، وصعوبة إقامة معارض تسويقية لمنتجات النزلاء، وحرص مراكز الإصلاح والتأهيل على ألّا تقف مكتوفة الأيدي؛ دفعهم لإطلاق متجر فعلي وإلكتروني لهذه المنتجات، كنوع من الاستجابة للتحديات التي فرضتها الجائحة بطريقة ريادية، ولتحقيق عائد مادي للنزلاء المنخرطين في البرامج التأهيلية، ولتسويق تجربة الإصلاح الأردنية أمام العالم أجمع بشكل منهجي، يربط النزلاء بمتطلبات السوق، واختيارات الزبائن مباشرة، وبهدف تحفيز العملية الإنتاجية داخل المشاغل، وجعل المنتجات قادرة على المنافسة في مجال البيع الإلكتروني، وهذه فكرة ريادية عامة يمكن أن تساهم في التقليل من العود الجرمي إذا ما أصبحت منصة رائجة؛ لأنها ستحقق مبيعات للنزلاء وستُكسبهم مهارات حديثة تناسب البيئة الرقمية المتنامية، ويمكن الاستفادة منها بعد الإفراج دون انتظار فرصة توظيف.
ووضح لنا مدير إدارة مراكز الإصلاح والتأهيل العميد فلاح المجالي أن هذا المتجر ليس مشروعًا ربحيًا، بل هو نافذة تسعى لإشراك المجتمع في العملية الإصلاحية، إذ تتكفل مديرية الأمن العام بتكاليف المواد الأولية للإنتاج، ومستلزمات إدامة المشاغل الحرفية التي يتم تحديثها بشكل مستمر، كاشفًا لنا عن الكثير من قصص النجاح لنزلاء تمكنوا من إنشاء مشاريع خاصة وناجحة بعد الإفراج عنهم، مشيرًا إلى أن القانون لم يرتب أي أدوار على إدارة مراكز الإصلاح والتأهيل في قضية الرعاية اللاحقة، بل ينحصر دورها في مرحلة ما قبل الإفراج حسب القانون، إلا أن الإدارة وفي سبيل محاربة السلوك الجرمي لا تدّخر جهداً في التعاون مع جميع المعنيين كي لا يبقى النزلاء رهن الانتظار لفرص العمل التي قد لا تتوفر، وبالتالي يمكن أن يدفعهم هذا إلى العودة إلى السلوك الجرمي.
تهرُب الجهات المسؤولة عن الرعاية اللاحقة من القيام بأدوارها
ترى مفوض الحماية في المركز الوطني لحقوق الإنسان الدكتورة نهلة المومني إن ربط قانون مراكز الإصلاح والتأهيل لقيام الجهات المسؤولية عن الرعاية اللاحقة للنزلاء بتوفر الإمكانيات اللازمة وفر لهذه الجهات مهربًا من مسؤولياتها، وبالتالي فإن عدم توفر الإمكانيات يعطي مبررًا قانونيًا لعدم القيام بأي جهود فاعلة على أرض الواقع، مما حال دون وجود رعاية لاحقة حقيقية على أرض الواقع بسبب عدم توفر الإمكانيات اللازمة التي هي سمة دائمة عند إقرار الموازنات.
وطالبت المومني بألّا يتم حصر مسؤولية مواجهة العود الجرمي على السلطة التنفيذية، بل يجب على قطاع الأعمال والشركات النهوض بجزء من هذه المسؤولية المجتمعية، وهذا ما أكدت عليه المعايير الدولية لحقوق الإنسان، بأن تنهض مختلف مؤسسات المجتمع المدني بمسؤولياتها، وتوفر نسبًا من فرص العمل، لأن العامل الأساسي في العود الجرمي وفق العديد من الدراسات، هو الدافع الاقتصادي، بالإضافة إلى قلة الوعي المجتمعي، والوصمة الاجتماعية التي تدفع بالنزيل إلى تكرار العودة إلى السلوك الجرمي.
في المقابل بين لنا الخبير الأمني واللواء المتقاعد الدكتور عمار القضاة، أن اللجنة العليا للرعاية اللاحقة -والتي سماها قانون مراكز الإصلاح والتأهيل- ، لم تجتمع خلال الخمس سنوات الماضية، ولم تبحث هذه القضية بالجدية المطلوبة، ولم يتمخض عنها أية قرارات جوهرية بخصوص الرعاية اللاحقة للنزلاء، عادًّا إلقاء اللوم على إدارة مراكز الإصلاح والتأهيل فقط في قضية العود الجرمي، ينم عن “نظرة قاصرة” على حد وصفه، إذ إن دورها لن يكون فعالًا دون قيام الجهات الأخرى في مرحلة ما بعد الإفراج عن النزيل بأدوار حقيقية لثنيهم عن السلوك الجرمي، وأن أية جهود في مكافحة العود الجرمي يجب أن تمتد على نطاق زمني يبدأ من لحظة إدماج المحكوم عليه في مجتمع السجن حتى إعادة إدماجه في المجتمع بعد الإفراج عنه، لأن الفجوة الحاصلة في هذا النطاق الزمني ستدفع الجاني إلى التطرف في ردود أفعاله، واللجوء إلى الجريمة كخيار يلبي معه حاجاته النفسية والمادية، ويبرر لنفسه الجريمة، نتيجة عدم تقبل المجتمع له، والشكل البياني أدناه يوضح أحجام مساهمة كل سبب من أسباب العودة للجريمة بحسب رأي النزلاء.
مليونان ونصف دينار معونات لأسر النزلاء في عام 2022
مدير مديرية الأحداث والأمن المجتمعي في وزارة التنمية الاجتماعية أحمد الزبن، بين لنا أن الوزارة تقدم معونات مالية مستمرة، وطارئة لأسر النزلاء بحسب شروط معينة، وتقدم معونات للنزيلات، بالإضافة إلى تقديم بعض المساعدات الغير مبرمجة أحيانًا، وحسب الإمكانيات، مثل كراسي المقعدين، والفرشات الطبية للنزلاء المرضى، كاشفًا لنا أن الوزارة قدمت ما يزيد عن مليونين ونصف دينار كمعونات لأسر النزلاء في عام 2022.
المخدرات والجرائم الواقعة على الأموال هي أكثر الجرائم تكرارًا
حسب التقرير الإحصائي الجنائي لعام 2022 الصادر عن مديرية الأمن العام، فقد ضبطت أجهزة إنفاذ القانون ما مجموعه ٢٢٨٩٥ جريمة العام الماضي، وهذا يعني أن لدينا 20 جريمة مقابل كل عشرة آلاف مواطن، بينما كانت النسبة في عام ٢٠١٩م هي 25 جريمة مقابل كل عشرة آلاف مواطن، وبمجموع ٢٦٢٣٣ جريمة، لذلك فإن معدل الجريمة في الأردن لم يرتفع بعكس الانطباع السائد، بل يشهد انخفاضًا طفيفًا، وعند مقارنة هذه الأرقام بالمؤشرات العالمية لارتكاب الجرائم، فقد وضع مؤشر “numbeo” لعام 2023، الذي يقيس معدلات الجريمة عالميًا، الأردن في المرتبة 90 من بين 144 دولة حول العالم، وكانت فنزويلا في المرتبة الأولى كأعلى نسبة جريمة، وقطر في المرتبة 144 كأقل نسبة جريمة في العالم بالنظر إلى عدد السكان، وهذا يعني أن الأردن جاءت في متوسط هذا المؤشر، أو في النصف الأقل تسجيلا للجرائم، لكن يجدر بنا الانتباه إلى أن نسبة اكتشاف الجرائم وصلت في المملكة العام الماضي إلى 93%، بحسب التقرير الإحصائي الجنائي لعام 2022م، وهي من أعلى النسب عالمياً، الأمر الذي يعني ببساطة أن من يرتكب الجريمة محليًا تناله بدرجة مرتفعة يد العدالة، ويتم القبض عليه وإحالته إلى المحكمة المختصة؛ وهذا يجعل النسبة الأعظم من مرتكبي الجرائم تُنفذ بحقهم العقوبة القانونية، وهي عقوبة الحبس في الغالب، ورغم هذا المستوى المتقدم من الضبط الشرطي للجرائم، إلا أنه يؤدي بطبيعة الحال إلى الاكتظاظ في مراكز التوقيف ومراكز الإصلاح والتأهيل.
وحسب التقرير الإحصائي الجنائي لعام 2022 أيضًا، فإن الجزء الأكبر من المدانين الذين يعودون لتكرار الجرائم، وتنفذ بحقهم عقوبة الحبس مرة أخرى هم مرتكبو جرائم المخدرات، وجرائم الاحتيال، والجرائم الواقعة على الأموال، والشكل البياني أدناه يوضح ارتفاع نسب هذه الجرائم تحديدًا مقارنة بغيرها.
هل عقوبات جرائم الاحتيال المالي رادعة؟
الخبير الأمني واللواء المتقاعد الدكتور عمار القضاة قال لنا، أن جريمة الاحتيال المالي من الجرائم التي تحتاج إلى تشديد قانوني في العقوبة كدرجة أولى، وليس إلى برامج رعاية أو تأهيل، إذ إن العقوبات الحالية غير رادعة، بالنظر إلى تنامي هذه الجريمة، وتطور وسائل الاتصال الرقمي التي زادت من حدة عمليات الاحتيال المالي، وأن مساواة القانون الحالي بين المحتال بمبالغ بسيطة والمحتال بمبالغ كبيرة، ومنحهما العقوبة نفسها دون النظر الى جسامة الفعل، سيدفع المحتالين إلى تكرار ارتكاب الجريمة، وجعلها مصدر دخل لهم، وإن كان مصدرًا غير مشروع؛ لأنها تعود عليهم بمبالغ مادية كبيرة، وعقوبات مخففة.
من جهة أخرى بين القضاة أنه وجد على مدار سنوات خبرته في الجهاز الأمني، والممارسة القانونية الفعلية له في المحاكم، أن الحرص على تحقيق حاجات النزلاء النفسية والإنسانية والأسرية، تؤدي دورًا بالغًا في ثني النزيل عن السلوك الجرمي، إذ إن العديد من النزلاء مكرري الإجرام قد تغير سلوكهم بشكل كبير بعد علمهم بأنه تم الاهتمام بأسرهم، أو تقديم شكل من أشكال الدعم لهم، فطبيعة المجتمع الأردني الذي يعظم الروابط العائلية جعلها تؤدي دورًا مؤثرًا في سلوك الأفراد.
3800 عقوبة مجتمعية نفذت منذ عام 2018
مدير مديرية العقوبات المجتمعية في وزارة العدل الدكتور عيد الوريكات، قال لنا إن العقوبات المجتمعية، أو العقوبات البديلة -حسب تعريف النص القانوني- هي عقوبات حديثة النشأة محليًا، طبقتها الكثير من الدول حول العالم، وقد بدأت في الأردن عام ٢٠١٨م، بناء على توصيات اللجنة الملكية لتطوير الجهاز القضائي التي شُكلت عام ٢٠١٧م، والتي على ضوء توصياتها تم تعديل قانون العقوبات، الذي أعطى للقاضي صلاحية إيقاع عقوبات مجتمعية بديلة عوضًا عن عقوبة الحبس.
وأضاف الوريكات أنه في عام 2018م جرى تطبيق عقوبات بديلة بحق سبع حالات، بالمقابل بلغ مجموع العقوبات البديلة الواردة إلى مديرية العقوبات المجتمعية في وزارة العدل هذا العام أكثر من ١٩٠٠ عقوبة. نُفذ منها لغاية الآن ١١٠٠ عقوبة، إذ تنفذ العقوبة خلال مدة سنة من صدور الحكم حسب القانون، لافتًا الانتباه إلى أن مجموع العقوبات البديلة التي نفذت منذ عام 2018م قد تجاوز ٣٨٠٠ عقوبة لغاية اليوم.
وبين الوريكات أن التعديل القانوني الذي جرى في عام ٢٠١٧م حصر استبدال العقوبات المجتمعية بعقوبات حبس موقوف تنفيذها بالأساس، الأمر الذي عدّه البعض يجعل العقوبات المجتمعية تبدو كإجراء غير ضروري بالنسبة للقضاة، لكن التعديلات التي جرت العام الماضي على قانون العقوبات وتحديدًا نص المادة ٢٥ مكرر، نقلت العقوبات المجتمعية إلى مرحلة متقدمة، إذ لم تشترط أن تكون العقوبات المجتمعية بديلة لعقوبات حبس موقوف تنفيذها، وهذا يعطي للقاضي صلاحيات للتوسع في تطبيقها، شريطة ألّا يكون المحكوم عليهم بعقوبات مجتمعية من أصحاب السوابق، وأن يقتصر تنفيذ هذه العقوبات على قضايا الجُنح بغض النظر عن مدة العقوبة الأصيلة، وعلى الجنايات التي لا تتجاوز العقوبة الأصيلة فيها عن سنة حبس، وألّا تكون القضية واقعة على أشخاص.
واستطرد الوريكات قائلا إن مفهوم العقوبات البديلة لا يزال بحاجة إلى توعية المجتمع ليتقبلها بشكل أكبر، مبينًا أن الوزارة تطمح للتوسع في تطبيق العقوبات البديلة، وتوقيع اتفاقيات مع جهات جديدة تتولى بشكل فعال احتضان تنفيذ العقوبات المجتمعية، عادًّا ثقافة المشتكي لا تزال في مجتمعنا لا تتقبل خضوع المشتكى عليهم لهذا النوع من العقوبات فقط، وإنما يُنظر لعقوبة الحبس في مجتمعنا على أنها الخيار الأجدى للقصاص من الجناة، وإن كانت الجريمة بسيطة.
وبين الوريكات أن عقوبة المراقبة الإلكترونية التي أُدخلت بموجب التعديل الأخير على قانون العقوبات العام الماضي، والتي تُخضع المحكومين لرقابة تحدد تجوالهم وحركتهم من خلال ارتداء إسوارة إلكترونية كبديل لعقوبة الحبس، لا يزال الحكم بها من قبل القضاة متواضعًا، إذ لم تتجاوز الحالات التي أُخضعت لمراقبة إلكترونية لغاية اليوم الخمس عشرة حالة فقط.
تـقــريـــر رائــد الـسـعودي – صحفيون