سبأ علي السكر – معهد الإعلام الأردني
“أنا قُرميّة للفكر”، هذا ما قاله وديع صوالحة الذي بلغ من العمر 90 عامًا عندما طلبتُ منه أن يعرّفني عن نفسه، شعرتُ حينها برغبة في معرفة المزيد عمّا تخفيه تلك التجاعيد في وجهه عن حياة مليئة بالأحداث. كان ينهل وديع من ينابيع مؤلفاته القديمة والتي لا يذكر منها إلاَّ كتابًا واحدًا “خواطر حياتية” ولكن صراعه مع مرضه الزهايمر أنساه الكثير إلاّ أنّه لم ينسِه كتاباته داخل المؤلف عن صديقهِ القديم العلّامة (روكس العزيزي) والتي جمعت بينهما مدينة مأدبا.
قَضى وديع عمره في تعليم اللغة الإنجليزية لطلاب الثانوية العامة في مدرسة الأحنف بن قيس، ثم انتقل إلى مدرسة المطران؛ ليمتاز عن غيره بأنّه العربي الوحيد المتحدّث باللغة العربية بينَ المدرسين “الإنجليز”، لم يكتفِ وديع بذلك، بل كان له نشاطات اجتماعية وثقافية وأدبية إضافة على ذلك توثيقه حكايات وشعر البدو قديمًا.
رغم تحمُّس وديع ليروي قصصه القديمة، إلاّ أن مرض الزهايمر حرمه ذلك، وعلى هذا فإنّ “الزهايمر” يُعدّ أكثر الأسباب شيوعًا للخرف الذي يؤدّي إلى إصابة المسنّين بالعجز وفقدانهم استقلاليتهم، وثمّة هنالك الكثير من الأشكال والأسباب للخرف، فهذا المرض من المحتمل أن يُسهم في حدوث 60% إلى 70% من الحالات.
ما بين الاكتئاب والخرف شعرة
يُعدّ الخرف والاكتئاب أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا في هذه الفئة العمرية، كما أنّه أكثر من 20% من البالغين بأعمار 60 فما فوق يعانون من اضطربات نفسية وعصبية في العالم. حسب منظمة الصّحة العالمية، يشهد العالم حدوث 7.7 مليون حالة جديدة من أمراض الخرف كلّ عام؛ إذ بلغ 47.5 مليون من المصابين بالخرف في جميع العالم، علماً بأنّ 58% يعيشون في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، وتشير التقديرات إلى أنّه قد يرتفع العدد الإجمالي للمصابين بالخرف ليبلغ 75.6 مليون نسمة لعام 2030 ليصل لحوالي ثلاثة أضعاف إلى 135.5 مليون نسمة في عام 2050.
تشير دراسات المركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية (NCBI) إلى أنّ شدة الاكتئاب في أواخر العمر مرتبط بشكل كبير بزيادة خطر الإصابة بالخرف. أفاد استشاري الأمراض الدماغ والأعصاب الدكتور جمال الأخرس أنّه ليس بالضروري أنّ يؤدّي الاكتئاب إلى أمراض الخرف، ولكن من الممكن أنّ تكون أعراض الاكتئاب مصاحبة لمرض الخرف وخاصة في مراحله الأولى، في حين أنّ أكثر أنواع الخرف انتشارًا هو “الزهايمر” نتيجة تغيرات جينية وراثية كما هو الحال في حالة وديع.
وأضاف الدكتور الأخرس أنّه يمكن تقليل خطر الإصابة بمرض الزهايمر مثلما نقلّل من خطر الإصابة بأمراض القلب، موضحًا أنّ العديد من العوامل التي تزيد خطر الإصابة بأمراض القلب قد تزيد من خطر الزهايمر كضغط الدم المرتفع، ومعدلات السكر في الدم ومعدلات الكوليسترول.
يلعب أسلوب الحياة دوراً مهمًّا للوقاية من الزهايمر مستقبلاً، أكدّ الدكتور الأخرس أنّه كلما اتبّع المرء أسلوبًا صحيًا وسليماً، استطاع تجنّب الإصابة بمرض الزهايمر، حيث ينصح بالبدء في تغيير العادات الغذائية وتجنّب التدخين، وممارسة الرياضة بالإضافة لاستخدام القدرات العقلية بشكل مستمر كالقراءة ولعب بعض الألعاب الذهنية.
لا معنى للصّحة دون الصّحة النفسية
“… الصحة حالة من الكمال البدني والنفسي والاجتماعي والعافية، وليست الخلو من المرض أو العجز”
منظمة الصحة العالمية
إنّ تعزيز الصّحة النفسيّة يُعدّ عنصرًا مهمًا في اكتمال دائرة الصحة العامة للإنسان، وتتعلق لأبعد مدى في السلوك الصّحي والاجتماعي والصّحة الجسدية، كما أنّها تتأثر بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والبنية المجتمعية لدى كبار السّنّ والفئات العمرية الآخرى.
قد ينتج عن الصّحة النفسيّة غير المستقرّة بعضًا من الاعتلالات أو الاضطرابات النفسيّة التي قد تؤدّي إلى الأمراض المزمنة وأهمها أمراض القلب والخرف بحسب تقرير منظمة الصحة العالمية ، ممّا يستدعي تدخل الطب النفسّي لعدم تفاقم الاضطرابات في الكبّر.
يساعد الطب النفسيّ المسنّين من عدم تدهور أوضاعهم المعرفية والصّحية بسبب التقدّم في العمر وفقًا لمنظمة الصّحة العالمية. ففي الدول المتقدّمة قد تفرّع تخصص الطّب النفسيّ ليكون مهتمًا بفئات مختلفة كالأطفال والمراهقين، أو الشيخوخة. تعاني الأردن من نقص الكوادر الطبية المؤهلة في مجال طب الشيخوخة بشكلً عام بما في ذلك الطب النفسي الشيخوخة بحسب الإستراتيجية الوطنية لكبار السنّ، حيث أكدّ الدكتور علاء الفروخ نائب رئيس جمعية أطباء الأمراض النّفسية بأنّ أطباء الأمراض النّفسية العامة في الأردن قادرون على التعامل مع فئة كبار السّنّ والاعتناء بهم، ولكن يجب في بداية الأمر العمل على توعية المسنّين وعائلاتهم على أهمية الصّحة النّفسية ومراجعة الطبيب دون الشعور بوصمة العار التي تؤدّي إلى التردّد في طلب المساعدة، والعمل من جهة أخرى على تأهيل مقدمي الرعاية الصحية بالتّعرف على مشاكل الصحة النفسية بأنواعها.
أوضح الدكتور الفروخ، أن الصّحة النّفسية لها أهمية “استثنائية” في فئة كبار السّنّ ينتج ذلك لارتباطها بالصحّة البدنية بشكلٍ كبير، ولكن هذا المفهوم مُغيّب لدى مقدمي الرعاية الصحية وكبار السّنّ أنفسهم.
فادي السلطي ممرّض مشارك يقوم برعاية كبار السّنّ في المنازل، ويعمل على رعاية المسنّ وديع الذي يعاني من صعوبة الحركة وأحد أمراض الخرف “الزهايمر”، يقول فادي: إنّه يغطي حالة وديع بشكلٍ يومي ليساعده على القيام بأعماله اليومية؛ كالاستحمام وتبديل الملابس، وتناول الطعام والحركة وأخذ العلاج. هذا ما يفعله مقدمّ الرعاية بالشكل المعتاد في الرعاية المنزلية للمسنينّ والتي يجب أن تتوفرّ لجميع كبار السّنّ القادرين وغير القادرين على تكاليف الرعاية. أشار السلطي إلى أن مشكلة رعاية المسنين المنزلية ليست بنقص كوادر التمريض اينما بعصوبة التعامل مع كبير السّنّ ورعايته، بالإضافة إلى وجود عقبات أخرى قد تغني مقدّم الرعاية عن العمل في رعاية كبار السّنّ كالحالة النفسية المصاحبة لتقدُّم في العُمر، فمصاب الزهايمر يحتاج إلى التذكير المستمرّ بأحداث يومه ليبقى على اطّلاع عمّا يفعل، ولا يجب الإغفال عن إصابة المسنّ بأمراض قد تحتاج لمتابعة دقيقة وبعض الممرضين لن يتحملوا مسؤولية ذلك.
أشار الدكتور الفروخ إلى أنه عادةً ما يتمُّ الإغفال عن الأمراض النفسية المصاحبة للأمراض المزمنة لدى المسنّين؛ إذ إنّه من المُهمّ طرح العناية والمتابعة لهذه الفئة من قبل مختصّ نفسي بشكلٍ دوريّ ومنتظم، فقد يحتاج البعض إلى دواء أو تعديل الدواء الموجود، والبعض الآخر قد يحتاج إلى دعم وإرشاد نفسيّ، قد يحتاج كبير السّنّ إلى ” أذن مُصغية لشكواهم وهمومهم” كدعم نفسي لهم.
تتأثر الصحة النفسية بالممارسات غير الصّحية على صعيد السكن و التربية والتعليم والعمل والبيئة والرفاهية والرعاية الصحية، من حيث تكاليف الرعاية الصحية والاجتماعية المباشرة وغير المباشرة للمسنين وللقائمين على رعايتهم على حد سواء.
تفتقر وزارة الصحة لقسم خاصّ بمتابعة قضايا كبار السّنّ، بحسب الإستراتيجية الوطنية الأردنية لكبار السّنّ 2018-2022 فإنّنا نعاني من نقص الكوادر الطّبية المُؤهّلة في طبّ وتمريض الشيخوخة بالإضافة إلى عدم تغطية خدمات الرعاية المنزلية المتخصصة ببرامج التأمين الصحي الحكومي بالرغم من عمل اللجنة الوطنية لكبار السّنّ بالتعاون مع وزارة الصحة على شمول الفئة العمرية 60 فما فوق في التأمين الصحي المجاني، إلا أنّه يوجد بعض العقبات بعدم معرفة كبار السّنّ في التأمين المجاني وعدم شمول كافة البرامج الصّحية لكبار السّنّ في مظلة التأمين رغم وجود خطط وإستراتيجيات قديمة تعنى بتعزيز وحماية حقوق كبار السّنّ وضمان تمتعهم بها، وتوفير الخدمات الأساسية لهم.
حياة كريمة لكبار السّنّ
خرج وديع للتقاعد المبكر في منتصف الثمنينات بعد حادثٍ وصفته به زوجته جميلة “بالخطير” الذي جعلهُ يبقى حوالي سنتين في مستشفى الكرك للعلاج بعد نقلهِ من موقع الحادث في طرابلس ثم لمستشفى الجامعة في عمان لينتهي به المطاف في الكرك، والذي جعله مقعداً بحاجة للرعاية. “سعينا إلى تحويله للجنة الطبية لتعديل راتبهُ التقاعدي حتى يساعدنا لرعايته… بس من ذاك اليوم لليوم راتبه التقاعدي 280 دينار فقط”، تقول جميلة: إنّ بعد سنوات طويلة من الخدمة لم يكن راتبه التقاعدي مجديًا؛ إذ إنّه لا يكفي لرعايتهم المنزلية ممّا أجبرتهم تلك الظروف على بيع أرضهم التي لا يملكون غيرها حتى تسهّل عليهم احتياجاتهم وتحقّق مطالبهم التي أثقلت الكاهل وأنهكت الجسد وأضعفت الذاكرة، ومن أجلِ الرعاية الصّحية والاجتماعية ومساعدتهم على إتمام أعمالهم اليوميّة وإدراك “ما بقي من العمر”.
تستيقظ جميلة (85 عامًا) على ألحان اسمها “يا جميلة يا جميلة”…، ليس على صوت “فيروز” بل بصوت زوجها وديع؛ لمساعدته على النهوض والحصول على حمّامٍ صباحيّ دافئ، ليبدآ يومهما في فنجان قهوة سادة والجلوس لانتظار فادي مقدّم الرعاية المنزليّ (ممرّض) على شرفةٍ مطلةٍ على الحديقة.
” الحمد الله مستورة” بهذه الكلمات أنهت جميلة كلامها عن معاناة تأمين حياة كريمة لها ولزوجها وديع.
لا تقتصر المعاناة على مصابي أمراض الشيخوخة والتقدّم في العمر فقط بل تلحق بأفراد أسرهم والقائمين على رعايتهم بضغوطات جسدية ونفسية واقتصادية كبيرة من حيث المصاريف العلاجية والتكاليف الطّبية والاجتماعية، وتكاليف الرعاية غير الرسمية. تشير المعلومات بحلول عام 2050 سوف تعيش نسبة 80% من المسنين في بلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
طرح الباحث محمد الزعبي في كتابه “حماية المسنين بين اقتصاد السوق الحرّ والعدالة الاجتماعية“، إنّ أزمة حماية المسنين ليست قانونية أو فنية خالصة، بل هي أزمة سياسية اقتصادية اجتماعية. ففي المجتمعات الشرقية والنامية يأتي دعم المسنّين من ثلاثة مصادر رئيسة إما بالدّعم العائلي، حيثُ الكثير من كبار السّنّ لا زال لديهم مكانة اجتماعية ونفوذ اقتصادي قوي من خلال ملكيتهم كالأراضي والعقارات، وإما من خلال الدّعم المجتمعي كالضمان الاجتماعي أو البرامج الاجتماعية الأخرى كمؤسسات التقاعد المدني والعسكري، وصندوق المعونة الوطنية والجمعيات الخيرية، أو بالاعتماد على الذات من خلال التوفير والاستثمار.
ليس من السهل على رجل في عمر السّتين العمل لكسب لقمة العيش وتأمين مستقبل أبنائه. يقول المتقاعد (الملازم الأول) سعد عبدالرزاق: بأنّه يعمل الآن في إحدى شركات التأمين الخاصّة حتى يُؤمّن تكاليف دراسة أولاده بعد خدمةٍ طالت عشرين عامًا من مديرية الأمن العام براتب تقاعد لا يكفي لسدّ الاحتياجات الأساسية. وأضاف سعد بصوت مشبع بالعتاب “والله لنوقف عباب مسجد الحسين” مُوضحّا أنّ راتب التقاعد وحده لا يكفي لسدّ احتياجات فردً من العائلة في يومنا ويكمن ذلك وراء أسباب عدّة أهمها غلاء المعيشة. وأشار إلى أنّه ” لولا ما ترك النا من الآباء، ما كان عشنا”…
قال الدكتور محمد الزعبي الباحث في التأمينات الاجتماعية: إنّ المعاناة الحقيقية هي تدني الرواتب التقاعدية ومصادر الدخل، وخاصّة لمن يتقاضى راتبًا تقاعديًا منذ أكثر من 20-30 عامًا والتي يعتمد غالبية الأردنيين عليها كمصدر دخلٍ أساسي، مشيرًا إلى أنّ ارتفاع تكاليف الحياة عبر السنوات أدّت إلى عدم الاكتفاء في الرواتب التقاعدية لسدّ الاحتياجات الأساسية، كما أنّ البعض لا يتوفر لديه دخل تقاعد لعدم الاشتراك بأيّ نظام من الأنظمة التقاعدية الوطنية، فالبعض لم يقم بالاشتراك الاختياري في الضمان الاجتماعي ممّا أدّى ذلك إلى بيع ممتلكاتهم ليتمكّنوا من تغطية علاجهم وتكاليف احتياجاتهم لتقدّمهم في العمر. ومن جهة أخرى، هناك من يعتمد فقط على ما يتسنّى له من المعونات من الجهات الحكومية وغير الحكومية أو المحسنين لعدم توفر أيّ مصدرِ دخلٍ.
وفقًا لمؤسسة الضمان الاجتماعي فإنّ عدد متقاعدي الشيخوخة خلال عام 2020، بلغ 4916 متقاعدًا ليكون مجموع رواتبهم الشهرية الإجمالية 2896714 دينار، شكّلت نسبة المسنين الذكور ما يقارب 68% أما المسّنات الإناث بلغت بنسبة 32% بالإضافة إلى أنّ 49% فقط من إجمالي المتقاعدين الأردنيين مسجلينِ في الضمان الاجتماعي و 44.3% من المتقاعدين المسجلين في هذا الضمان يتلقّون رواتب تقاعدية تقلّ عن خط الفقر الوطني (15.7%) حسب البيانات المتوفرة حتى نهاية عام 2015.
تعتمدُ أغلبية المسنّات لسدّ احتياجاتهن الأساسية على صندوق المعونة الوطني بنسبة 72% علمًا أنّه تم خفض قيمة المعونة الشهري ليصل إلى 45 دينارًا فقط، أوضح المُحلّل الاقتصادي سلامة الدرعاوي أنّ السبب الرئيسِ من استفادة المسنّات الإناث أكثر من المعونة الوطنية يعود إلى أثر الفروقات بين الجنسين في التعليم والعمل الذي يصبح أوضح ما يمكن في سن الشيخوخة. ونتيجة لذلك، تصبح غالبية النساء المُسنات أكثر عرضة للفقر من الرجال المُسنين.
وأضاف الدرعاوي أنّه كثيراً ما تتحمل المُسنات المزيد من المسؤوليات عن رعاية الأسرة مع القيام في الوقت نفسه بتدبير ظروف عمل تتسم بعدم المرونة وسن التقاعد الإلزامي وعدم كفاية الراتب التقاعدي، مما يجعلهن ومَن يُعهد إليهن برعايتهم، في حالة ضعف بالغة. وبحسب اللجنة الوطنية لشؤون كبار السّنّ/ المجلس الوطني لشؤون الأسرة يُشمل تحت مظلة التقاعد نسبة 54.1% فقط من المسنينّ في المملكة.
إلى هذه اللحظة، يعمل أعضاء اللجنة الوطنية لمتابعة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية الأردنية (2018-2022) لإنشاء صندوق لدعم كبار السّنّ بالتعاون مع وزارة الصحة وجهات أخرى؛ إلاّ أنّهم يواجهون ضعفاً في التنسيق بين الجهات الحكومية وغير الحكومية المعنية بقضايا كبار السّنّ، وندرة الأبحاث والمسوحات وقواعد البيانات المتخصصة بقضايا الدخل الآمن والفقر والعمل لدى كبار السّنّ. وأوضح أمين عام المجلس الوطني لشؤون الأسرة (رئيس اللجنة) محمد مقدادي بأنّ جائحة كورونا جدّدت الحاجة الملحّة للإسراع بعمل صندوق تنمويّ يساهم في إحداث برامج تنموية بعيداً عن الصناديق المتعارف عليها، ليشمل جميع الجهات المعنية برعاية وتنمية كبار السّنّ. كما وأضاف مقدادي بأنّ المبادرة الحكومية لإنشاء الصندوق لن تقتصر على دعم كبار السّنّ في داخل دور الرعاية والإيواء فقط وإنّما خارجها بسبب قصور في شمول كافة كبار السّنّ تحت مظلّة التقاعد.
عائلة صوالحة وسعد والعديد من كبار السّنّ ممّن يحالون إلى التقاعد في كلّ عام يجدون أنفسهم في مواجهة مجتمع يصنّفهم تحت عنوان انتهاء الصلاحية، فلا تتوفّر لهم حياة آمنة ومستقرّة ولا دَخل يقضون به حوائجهم.
بعد الحديث عن مدى تخطيط الأسر الأردنية للمستقبل حتّى تستطيع ضمان مرحلة من العمر أكثر أمنًا، واستقلالاً، وإنتاجية، وذات آثار اجتماعية تنعكس بشكل إيجابي أو غير سلبي على الأقل، لابدَّ من معرفة من هم كبار السّنّ في الأردن.
ففي الأردن يُعتبر من بلغ عمر 60 عامًا أو أكثر من كبار السّنّ حسب معايير منظمة الأمم المتحدّة ومنظمة الصحة العالمية جاء ذلك منسجمًا مع التشريعات المحلية والإستراتيجيات الوطنية لكبار السّنّ وخططتها التنفيذية، تُشير التقديرات الصادرة عن الأمم المتحدّة بتضاعف عدد كبار السّن ّفي جميع العالم ليصل إلى أكثر من 1.5 مليار شخص بحلول عام 2025؛ أي أكثر من 20% من مجموع سكان العالم ، ومن المتوقع زيادة عدد كبار السّنّ أسرع في البلدان النامية. ممّا يتطلّب هذا إيلاء المزيد من الاهتمام للاحتياجات والتحدّيات التي يواجهها العديد من كبار السّنّ في الحاضر والمستقبل.
وبحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة للتقدير السكاني لعام 2020 بلغ تعداد كبار السّنّ حوالي 588110 نسمة ما نسبته 5.4% من إجمالي عدد السكان البالغ حوالي 10806000 مليون نسمة، فقد شكّل الذكور ما نسبته 50.9% في حين شكلت الإناث ما نسبته 49.1% علماً بأنّ معدل العمر المتوقع عند الميلاد للإناث يفوق الذكور بحوالي ثلاث سنوات ونصف، إذ بلغ هذا المعدل للإناث 75.1 سنة وللذكور 72.3 سنة، وفقاً لوزراة الصحة الأردنية لعام 2020. تتوزع نسب كبار السّنّ على 12 منطقة إدارية (محافظات) في المملكة، حيثُ كانت النسبة الأعلى في العاصمة وبلغت 47.7% وعليه فإنّ محافظة الطفيلة تحتضن العدد الأقل من المسنيّن لتبلغ 0.83 %.
كبار السّنّ والرعاية الاجتماعية
تعتبر الرعاية الاجتماعية حقّا من حقوق الإنسان وفقًا لما اعتبره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر/كانون الأول عام 1948). إذ اختلفت الرعاية الاجتماعية عن الحماية الذاتية التي تقوم على شكل فردي من الحماية كالادّخار والاستثمار والأملاك الخاصة، ولا تقوم على مبدأ المساعدات والتكافل الاجتماعي بخلاف الحماية الاجتماعية.
وبالحديث عن واقع الرعاية الاجتماعية لكبار السّنّ في الأردن، أشار الدكتور الزعبي إلى أنّ كبار السّنّ يشكلون نسبة قليلة من مجموع السكان مقارنة مع الأطفال والشباب، “وبالتالي لا يوجد مشكلة في احتواء هذه الفئة نهائياً ” بالنظر إلى المجتمعات الغربية المسنّة والتي يشكل عدد المسنيّن فيها أكثر من ربع مليون حيث تسمح دخولهم المرتفعة وبرامج التقاعد المناسبة لهم بالعيش الرغيد والمستقل. يظهر الشكل الآتي نسبة كبار السّنّ في الهرم السكاني مقارنةً بنسب الفئات العمرية الأخرى:
تشير التقديرات الصادرة عن مؤسسة ساعدوا المسنين الدولية (Help Age International)، إلى زيادة كبار السّنّ 60 عامًا فما فوق خلال الأعوام القادمة في الأردن، و من المتوقع أن تصل في نهاية عام 2030 إلى ما نسبته 8.6 وإلى ما نسبته 15.8 مع نهاية عام 2050.
لا تقتصر معايير الحياة الكريمة لدى كبار السّنّ على الوضع الصّحي والدخل المتاح فقط، بل من حقّ المسنّ الحصول على الخدمات والمشاركة المجتمعية والتشجيع لتمكينهم من الاعتماد على ذاتهم، وتمتعهم بالرفاهية اللازمة للعيش بكرامة.
مشاركة فاعلة لكبير السنّ
في الصباح الباكر يقوم حابس المجالي (مختار ضاحية الحسين) ذو 76 عامًا في جولةٍ إلى منازل المنطقة لتفقد أحوالهم والاطمئنان على أوضاعهم. يبتسم حابس قائلاً: ” بلف الضاحية بكاملها يومياً، لأنه بعتبر حالي أنا المسؤول عنها إداريًا”، عمل المجالي في الأمن العام لمدة 20 عامًا ثم أحيل للتقاعد، ليعمل مديرًا للعلاقات العامة في منظمة العالم الأسلامي لحوالي 22 عامًا ليكون تقاعده الأخير فقد أنذر نفسه للرعاية والاهتمام في منطقة ضاحية الحسين وأهلها.
في وسط الحي توجد حديقة مليئة بالأزهار الملونة تفوح منها روائح الياسمين تجذّبُ المارّة لدخولها والتّمتع بجمالها، يقول المجالي إنّه وعند الغروب يجلس كبار السّنّ المتقاعدين في الحديقة لتبادل الحديث فيما بينهم والمسامرة.
وأضاف المجالي بأن ” كبير السّنّ عندما يتقاعد يعود كالطفل المدلّل ” يحتاج إلى الرعاية والشعور في الحب، وهذا الشيء الذي لم توفره الدولة للمسنينّ لعدم وجود اهتمام في فئة كبار السّنّ، وإبعادهم عن “الساحة” وعدم دمجهم في الأنشطة المجتمعية.
لابّد من إسهام ومشاركة كبار السّنّ في الأعمال المجتمعية سواء بالرأي أو العمل، تقول المستشارة و الأخصائية الاجتماعية الدكتورة فادية الإبراهيم إنه يجب توفير البيئة الداعمة لتمكين كبار السّنّ وتفعيل مشاركاتهم في المجتمع وذلك من خلال دمجهم في الأعمال التطوعية بما يتناسب مع أعمارهم وظروفهم الصّحية، ودعم دور المجتمع المدني في النهوض بكبار السّنّ، فلا يعني سنّ التقاعد هو الانقطاع عن المشاركة المجتمعية للمسنينّ.
في الوقت الذي أكدّت فيه وزارة التنمية الاجتماعية دعمها لدمج كبار السّنّ في المجتمع والعمل على الأندية النهارية، وبحسب ما صرّح مصطفى المغربي رئيس قسم كبار السّنّ في وزارة التنمية الاجتماعية بأنّ عدد هذه النوادي في كافة أرجاء المملكة لم يتجاوز 4 فقط، حيث يوجد نقص في توفير النوادي النهارية لكبار السّنّ وعدم توفرها في كافة المحافظات، وقد تم إغلاق كافة الأندية النهارية للمسنين لأسباب مختلفة؛ كعدم تجديد الترخيص، أو عدم وجود أنشطة فعلية لكبار السّنّ ولم يبقَ سوى “منتدى الرواد الكبار” التابع لجمعية الأسرة البيضاء والقائم في مدينة عمان.
كبار السّنّ في الأردن يحتاجون- بحسب توصيات الاستراتيجية الوطنية الأردنية لكبار السّنّ (2018-2020)-إلى وضع سياسات تنموية داعمة لهم، وتعزيز دور المؤسسات الحكومية وغير الحكومية في إقامة الحدائق العامة الصديقة لكبار السّنّ، وإيجاد الأندية الاجتماعية ضمن هذه الحدائق، بإلاضافة إلى تأهيل الشباب للقيام بالأعمال التطوعية الإجتماعية لخدمة كبار السّنّ والعمل على تنمية مهاراتهم ومعارفهم وقدراتهم مع تقدمهم بالعمر، ممّا يتيح لهم مشاركة فاعلة في المجتمع.
جائحة كورونا نموذجًا:
قالت مسؤولة برامج كبار السّنّ في المجلس الوطني لشؤون الأسرة خديجة العلاوين إنّ تقييم الوضع الأردني واهتمامه في قضايا كبار السّنّ لعام 2015 قد بلغ بنسبة 60% فقط وعلى هذا جاء تحديث الاستراتيجية الوطنية في عام 2017 لتركيز على عدة تحديات يواجهها المسنينّ الأردنيين في الأعوام السابقة لهذا اليوم، ومنها: الرعاية المنزلية والصحة النفسية، والوضع الاقتصادي والدخل الآمن، والرعاية الصحية والاجتماعية.
وأضافت العلاوين أن الإستراتيجية الوطنية المحدثة دعت إلى الاهتمام بالجانب الاقتصادي لكبار السّنّ، والاستفادة من خبراتهم ومهاراتهم بعد سنّ التقاعد في مختلف المجالات؛ إذ إنّ المجلس الآن ينتظر إنشاء الصندوق التنمويّ لدعم المشاريع والأعمال التطوعية الخاصة بكبار السّنّ.
جاءت جائحة كورونا موازية لعمل المجلس الوطني لشؤون الأسرة على تقييم حالة كبار السّنّ لعام 2020، ولا زال المحور الأهم هو الوضع الاقتصادي لدى المسنينّ، كما تبيّن عدم وجود مخصصات لهذه الفئة في حالات الطؤارى كجائحة كوفيد_19؛ ليترتب بعدها الرعاية النفسية لكبار السّنّ والتي غفلت عنها الخطابات الحكومية ووسائل الإعلام وذلك لبث الطمأنينة في قلوب المسنينّ بدلاً من الخوف والذعر. كما أنّ قانون الدفاع وأوامره التي أصدرتها الحكومة منذ بدء أزمة كورونا لم تكن تشمل كبار السّنّ في جميع الجوانب المهمة، وقد اقتصرت على عدة أمور بسيطة كالأولوية في أخذ اللقاحات وعدم خروج المسنينّ حمايةً لهم؛ إذ إنّ القصور في الإشراف الطبي المباشر والعناية الصّحية وتوفير الخدمات الأساسية للمسنينّ مثل توصيل الأدوية إلى المنازل والمراجعات الطبيّة في المراكز الصّحية كان ملحوظًا خلال الجائحة.
نموذج جديد للوقاية من الأمراض المزمنة
يقول الدكتور فادي الشعبان المتخصص في طب الصّحة المستدامة وعضو في الأكاديمية الامريكية للصحة المستدامة( Anti aging and Regenerative Medicine American Academy) أنّ طب الصّحة المستدامة عبارة عن نموذج جديد من الخدمات الطبية التي تهتم بتوفير الوقاية من الأمراض المزمنة والقاتلة مثل أمراض القلب والضغط والسكري والسرطان، وتهتم أيضًا بتوفير نوعية حياة صّحية وعقلية جيدة لكبار السّنّ.
فطب الصّحة المستدامة يُعنى بدراسة التركيبة الجينية للفرد وإجراء فحوصات مخبرية متطورة لمجموعة العمليات الحيوية لخلايا الجسم ثم يتبعها دراسة تفصيلية للوظائف الفسيولوجية لكافة أجهزة الجسم والعقل، بهدف التعرف على الاعتلالات الوظيفية المختلفة التي تحدث في الجسم في مرحلة ما قبل ظهور الأعراض المرضية.
وبعد هذه الفحوصات المفصلة للجسم والعقل توضع خطة صّحية فردية طويلة الأمد تعتمد على الغذاء والرياضة والنوم والمتممات الغذائية وإزالة السموم. وتهدف هذة الخطة العلاجية الوقائية إلى تأمين صّحة مستدامة خالية من الأمراض المزمنة وتأمين نوعية حياة جيدة ومستقلة لكبار السّنّ.
أصبح من الضرورة والأولوية لكل فرد من مختلف الفئات العمرية المبادرة في إجراء هذه الفحوصات للتقليل من احتمال الإصابة بالامراض المزمنة والتقليل من الاعتلالات الجسدية والعقلية المصاحبة للتقدّم في العمر.
“الشيخوخة هي أكثر الأشياء التي تفاجىء الإنسان”
ليون تروتكسي
البحث عن أمان مفقود: الاحتياجات الاجتماعية والنفسية لكبار السّنّ