الصمت الجارح
عندما يكون ثمن المساعدة علاقة جنسية يبدأ هنا تأنيب الضمير، هذا ما حدث مع (س. أ.) عندما ذهبت باحثة عن مساعدة في تأمين منحة دراسية لابنتها لتكمل تعليمها من مديرها السابق لأحد مؤسسات المجتمع المدني التي ظنت أن إنسانيته هي ثمن المساعدة، وابتسامة ابنتها هي الهدف، للتفاجئ (س. أ.) أن ثمن المساعدة هو جسدها والتخلي عن كرامتها ومبادئها.
رفضت (س. أ.) أن يكون جسدها الثمن، وبدأت رحلة تأنيب الضمير ما بين أن تخبر زوجها أو تصمت، وإذا ما أخبرته قد يحدث ما لا يحمد عقباه كما تظن، وصمتها يؤلمها وتشعر بأن ما حصل خيانة لزوجها وللمجتمع، إذ أن “كائنا جنسيا” حسب تعبيرها لا يزال طليقا يتصيد ضحايا أخريات.
وعلى نفس نمط القصة السابقة، ولكن أطرافها انعكست، فالمتحرش في هذه القصة هي امرأة، مديرة مباشرة لـ (م. س.)، يروي بأنه عندما كان في عمر الـ25، كان يعمل مندوبا للمبيعات في أحد الشركات، وكانت مديرته المتزوجة والتي لديها ثلاثة أطفال وتكبره بخمس سنوات تتحرش به عن طريق التلميحات الجنسية وطرح الأسئلة الشخصية في بادئ الأمر، وكان لا يجرؤ على قول “اخرس ما تدخل بشي ما بخصك” لأي مدير له في العمل أو من هم أعلى رتبة منه، وهذا حسب اعتقاده ما جعلها تجرؤ على الاعتداء عليه جنسيا في غرفة الاجتماعات لاحقا.
اكتفى (م. س.) بالصمت وعدم تبليغ المؤسسة أو الجهات الأمنية بالذي حصل لشعوره بالعار أولا، ولومه لنفسه لما حصل ثانيا، ولعدم وجود آلية معينة في مكان عمله تعطيه حق التبليغ وتحفظ سريّة ما جرى دون علم باقي زملائه.
لجأ (م. س.) الى صديق له من خارج العمل وأخبره بما جرى، فشجّعه على أن يكمل في علاقة معها وهذا ما حصل، لاحقا ترك العمل وأرجع السبب إلى أن مديرته كانت هي وراء تركه بشكل غير مباشر، مبررًا بأنه لم يتوفق في عمله جراء العلاقة التي جمعته بها، إضافة لعدم تركيزه على عمله كالسابق.
لكن المفاجأة كانت عندما اكتشف بعد تركه للعمل أنها كانت قد تحرشت بموظف سبقه، وبموظف آخر أتى بعده وجميعهم أصغر منها عمرًا وغير متزوجون، وكانت السيدة تقدم حججًا مثل أنها لا تحب زوجها لافتقار علاقتهما على مشاعر المحبة، وعدم قدرته على إشباع رغباتها واحتياجاتها الجنسية، رغم وسامته ووضعه المادي الجيد جدا حسب تعبيره.
لماذا يتحرش المتحرشون؟
يتبادر الى الكثير منّا أسئلةً مثل؛ ما الذي يدفع المتحرش للتحرش؟ وهل يعترف ما نطلق عليه بالـ “متحرش” بما يمارسه من ألفاظ وأفعال بالتحرش أصلا؟.
منصور شاب عشريني يعمل في خدمة توصيل الطعام إلى المنازل في أحد تطبيقات التوصيل المعروفة في الأردن، يرفض رفضًا قاطعًا مصطلح التحرش ولا يعترف بوجوده خاصة إذا كان لفظيًا، ويرى أنه ما هو إلا “إبداء للرأي” كما سماه، وأن الأفعال التي تصل حد الاعتداء الجسدي والجنسي وأعطى “اللمس” كمثال، هي التي يجب أن يطلق عليها ما يسمى “بالتحرش”.
ويقول منصور: “إن النساء هنّ من يبدأنّ التحرش بالرجال بلباسهنّ، وأن الاحتشام سبب مباشر ورئيسي لعدم تعرض الفتاة لما تطلقون عليه تحرش لفظي، في المقابل يرى أن الشاب الذي يضايق فتاة محتشمة ليس متحرشًا بل مجرمٌ ومريضٌ نفسي وجَب علاجه”.
بوجهة نظره أن ما يسميه “إبداء رأي” أو “إعجاب” لا يحدث إلا بموافقة الطرفين، أو شعور الشاب بقبول الفتاة لما سيقوله، متسائلًا “كيف لنا أن نسميه تحرشًا؟”
تقول الأخصائية النفسية إنشراح الموسى أن الاعتقاد بأن التحرش الجنسي يقتصر فقط على اللمس والاحتكاك الجسدي فهذا اعتقاد خاطئ، فالتحرش هو انتهاك خصوصية جسد شخص، سواء كان عن طريق اللفظ أو النظر أو اللمس أو حتى ممارسة التعري أمام الآخرين.
وتُرجع الموسى الأسباب التي تدفع الأشخاص إلى ممارسة التحرش الجنسي هي الاضطرابات النفسيّة التي يعاني منها أصحاب الشخصيّة الساديّة الذين يستمتعون بممارسة القهر والإساءة للآخرين، وتشير إلى أن ليس كل من يمارس التحرش الجنسي فهو بالضرورة يعاني من اضطرابات نفسيّة، بل أغلبهم أشخاص واعيين ومدركين لما يقومون به، ويستمتعون بردة فعل الآخرين ليشعرونهم بقوتهم وسلطتهم عليهم.
وأضافت أن المجتمع يعزز سلوك المتحرّش ولا يرفض فعل التحرش، وذلك عن طريق لومه للضحية سواء بسبب مظهرها أو التصرفات التي تقوم بها، حيث أن أغلب الدراسات المعمولة على التحرش بيّنت أن الأكثرية تعرضوا للتحرش الجنسي على اختلاف أشكالهم وسلوكياتهم، وهذا ينفي جميع التبريرات التي يضعها المجتمع في لومهم للضحايا.
أما بالنسبة للآثار النفسية التي يتركها ممارس التحرش الجنسي على الضحايا، فهي ليست وقتية ولا تنتهي بانتهاء الفعل بحسب الموسى، بل تستمر لفترات أطول تولد لديهم شعورًا بالخزي والعار وقد تصل حد العزلة الاجتماعية، وكل ذلك بسبب لوم المجتمع لهم وتحميلهم ذنب فعلٍ لم يقوموا به.
التحرش الجنسي.. متى ظهر؟
يعود تاريخ استخدام مصطلح “التحرش الجنسي” إلى عام 1973 في تقرير كتبته (ماري رو) رئيسة ومستشارة معهد (ماساتشوستس) الأمريكي للتكنولوجيا آنذاك عن أشكال مختلفة من قضايا المساواة بين الجنسين، واعتمد المصطلح في عام 1975 من قبل ثمانية حقوقيين من اتحاد “ضد الإكراه الجنسي” وكانت (ماري) واحدة منهم، وذلك بحسب كتاب “In Our Time: Memoir of Revaluation” للصحفية (سوزان براونميلر).
ولعل أول حالة تبليغ علنيّة عن التعرض لتحرش جنسي كانت في عام 1991 من قبل (أنيتا هيل) محامية ومساعدة لمرشح المحكمة العليا آنذاك (توماس كلارينس) حين كان يعمل في وزارة التعليم الأمريكية، حيث ادعت أنه طلب منها عدة مرات مقابلتها خارج مكان العمل، وحين رفضت طلباته المستمرة، أصبح يفاتحها بموضوعاتٍ ذات طابعٍ جنسي، ويعرض عليها مقاطع مصورةً لمشاهد جنسية جماعية واغتصاب.
وحين انتقل (توماس) للعمل في المحكمة العليا لحقته (هيل) وحين سُألت عن السبب، كان جوابها أن الوظيفة التي حصلت عليها في المحكمة كان طموحها ولا يمكنها رفضها، فانعكس جوابها ضدها وطالب المجلس بعمل اختبار “كاشف للكذب”، وحين أُجري الاختبار عليها كانت النتيجة من صالحها، ولكن برغم ذلك لم تصدقها اللجنة وفقدت مصداقيتها.
بعد الحادثة بعامٍ واحد، قرر الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب التخلي عن معارضته لمشروع قانونٍ يمنح ضحايا التحرش الحق في المطالبة بتعويضات الأضرار الفيدرالية، وتعويضهم ماديًا، وإعادتهم للعمل، وتم تمرير القانون من قبل الكونجرس، وخلال عامٍ واحد، ارتفعت شكاوى التحرش التي تم تقديمها إلى المحكمة بنسبة 58%.
وفي ذات العام أصدرت الأمم المتحدة التوصية العامة رقم (19) في مؤتمر “القضاء على جميع أنواع العنصرية ضد المرأة” على أن التحرش الجنسي للمرأة يتضمن:
“أي فعلٍ جنسي غير مرحّب به كالاتصال الجسدي أو التلميحات أو التعليقات الجنسية الخاصة باللون، وعرض الإباحية والطلبات الجنسية سواء كان بالقول أو الفعل. هذا الفعل قد يكون ُمِذل وقد يؤدي إلى مشاكل صحية وأمنية، إنه نوع من أنواع التميّيز عندما تعتقد المرأة أن اعتراضها على مثل تلك الأفعال سيسبب لها في أضرار في العمل ومن ضمنها التعيين أو الترقية أو خلق جو عمل عدائي”.
ولعل من أهم الحركات الاجتماعية ضد الاعتداء والتحرش الجنسي حملة “أنا أيضًا” (me too)، حيث بدأت في الظهور على وسائل التواصل الاجتماعي في عام 2006 على موقع (Myspace) من قبل الناشطة الأمريكية (تارانا بورك).
وفي عام 2017 أعادت الممثلة الأمريكية (أليسا ميلانو) الحركة إلى الواجهة من جديد عبر موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) تحت وسم (#MeToo) حين قدمت مزاعم باعتداء المنتِج الأمريكي (هارفي واينشتاين) عليها جنسيًا، وسرعان ما تبع ذلك عدد من المشاركات والردود البارزة من ممثلات أمريكيات تعرضنّ لما تعرضت له (أليسا) من ذات الشخص.
أماكن عملٍ ليست آمنة
عرّف مشروع “الحامية” الذي نفذته جامعة (جون هوبكنز) التحرش في أماكن العمل على أنه:
“القيام بإيحاءات جنسية غير مرحب بها تؤدي إلى بيئة عمل عدائية أو عندما يعتبر الطرف الذي يتلقى هذه الإيحاءات الجنسية أنها منافية للأخلاق أو أن رفضها سينعكس سلبًا أو قد يُعتبر أنه سينعكس سلبًا على ظروف العمل الحالية أو المحتملة”.
ويشمل الإيحاءات الجنسية في مكان العمل، السلوك والإيحاءات الجسدية، وطلب إسداء معروف جنسي أو فرض إسداء مثل هذا المعروف، وإبداء ملاحظات ذات طابع جنسي، وعرض ملصقات أو صور أو رسومات جنسية واضحة، والإشارة إلى شخص بطريقة مهينة أو مذلة إستنادًا إلى تعميمات على أساس النوع الاجتماعي، والقيام بأي إيحاء غير مرحب به سواء كان جسديًا أو كلاميًا أو غير كلامي ذات طبيعة جنسية بطريقة مباشرة أو ضمنية، ومن شأن كل ما ذكر أن يخلق بيئة عمل مرهبة أو معادية أو مهينة أو مهدّدة، وتدخّل غير منطقي في الأداء العملي للشخص الذي يتعرّض للتحرش، وتعاني ضحية التحرش الجنسي من أي شكل من أشكال الضرر المقرون بالوظيفة أو الترقية أو إعادة التوظيف أو استمرارية الوظيفة، ويكون لرفض الإيحاءات الجنسية وقع سلبي على ظروف العمل عندما يصبح عرض العمل أو شروط العمل أو الترقية أو إعادة التوظيف أو استمرارية الوظيفة رهنًا بقبول الشخص لهذه الإيحاءات الجنسية غير المرغوبة أو بمدى احتماله لها.
وفي دراسة نفذتها جمعية معهد تضامن النساء الأردني لصالح اللجنة الوطنية الأردنية لشؤون المرأة بعنوان “دراسة ظاهرة التحرش في الأردن” نشرت في عام 2017 للتعرّف على مدى انتشار ظاهرة التحرش في الأردن، وفهم طبيعتها وأسبابها ودوافعها في مختلف محافظات المملكة، وفي مختلف الأماكن (المنازل / الأماكن العامة / المؤسسات التعليمية / أماكن العمل والفضاء الالكتروني)، وشملت عينة قوامها 1366 شخصًا 14% منهم ذكور، في حين خصص منها 322 لعينة قصدية من مرتكبي التحرش، فيما تركزت محاورها على التحرش الذي تتعرض له النساء أكثر مما يتعرض له الرجال.
وكانت نتيجة الدراسة أن التحرش الجسدي والنفسي يحصل بنسبة 40% في أماكن العمل من قبل الزملاء الذكور، وأن 35% ممن مورس عليهنّ التحرش كنّ يرتدين ملابس عادية مع حجاب.
كما وتوصلت الدراسة إلى أن 28.6% من مرتكبي التحرش يضعون اللوم على على الضحايا، فيما يضع 14.7% منهم اللوم على أنفسهم، فيما كان جمال المرأة وجسدها هو السبب الأكبر للقيام بفعل التحرش ضد المرأة بنسبة بلغت 27.7%.
من ناحية أخرى قسّمت الدراسة التحرش الجنسي إلى خمسة أنواع مختلفة، وهي الجسدي والايمائي واللفظي والنفسي والالكتروني.
ويشمل التحرش الجسدي كل من: اللمس، التقبيل، الربت (التحسيس) على الجسد، الالتصاق، مداعبة أو إظهار أعضاء حساسة أمام الاخرين وعرض تقديم خدمة مقابل القيام بفعل فاضح أو جنسي.
فيما يشمل التحرش الايمائي كل من: النظر والتحديق بالجسد، اعتراض طريق الآخرين، عرض صور ومقاطع ذات محتوى جنسي فاضح، وتقديم هدايا ذات مدلول جنسي و حركات جنسية باليدين أو تعبيرات الوجه كالغمز وتحريك الشفتين.
وشمل التحرش اللفظي العبارات غير اللائقة مثل “ياقمر” “يا بطة” “يا عسل”، نكات ذات مدلول جنسي وأسئلة شخصية القصد منها تحديد ميول وآراء الاخرين الجنسية.
وحدّدت الدراسة الأفعال والسلوكات التي تصّطحب التحرش النفسي كل من: الإقصاء والاستبعاد بسبب المظهر والجسد، العزل الاجتماعي، الحديث بسوء عن الشخص بسبب مظهره وجسده وطلب القيام بأعمال خطرة على الصحة والجسد.
أما العنف الالكتروني فيشمل المكالمات المتكررة غير المرغوب بها، الرسائل ذات المحتوى الجنسي الفاضح، الابتزاز بالصور الشخصية والتهديد بنشرها، جمع المعلومات الشخصية، اختراق الحسابات الالكترونية، الملاحقة والتّتبع على مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهواتف وطلب القيام بأفعال ذات مدلول جنسي أمام كاميرا الهاتف أو الحاسوب.
صحفياتٌ.. وعنفٌ عبر الإنترنت
التحرش والعنف الممارس عبر الانترنت لم يقتصر فقط على المستخدمين العاديين وحسب، بل شمل الصحفيات بشكل خاص، خاصة وأن طبيعة عملهنّ لا تستوجب تواجودهنّ في أماكن عمل محددة، واختلاطهنّ وتعاملهنّ بشكل أكبر مع المجتمع المحيط بهنّ جعلهنّ أكثر عرضة للتحرش والعنف عبر الانترنت أكثر من غيرهنّ وخاصة على منصات التواصل الاجتماعي.
ففي دراسة أعدتها (اليونسكو) نشرت في عام 2021 تحت عنوان “التهديد: الاتجاهات العالمية في العنف على الإنترنت ضد الصحفيات”، وشملت 901 صحفية من 125 دولة حول العالم، جاء فيها أن الصحفيات يتعرضنّ للعنف عبر الانترنت أكثر من أي وقت مضى، وأن الصحفيات من ذوات البشرة الملونة والسكان الأصليين واليهوديات والعربيات ومثليات الجنس هن الفئة الأكثر تأثرًا بالعنف عبر الإنترنت.
وبحسب الاستطلاع الذي أجرته الدراسة، أن 73% من العينة المستهدفة تعرضنّ للعنف عبر الانترنت شملت تهديداتٍ بالقتل وتهديداتٍ جنسية، و20% منهنّ تعرضنّ لهجوم وإساءة في الواقع الحقيقي بعد تلقيهنّ التهديدات عبر الانترنت، كما أن 13% منهنّ تلقينّ تهديداتٍ بالعنف ضد المقربين منهنّ، بما في ذلك الأطفال والرضع.
وربطت الدراسة أن ظاهرة العنف عبر الانترنت الممارسة على الصحفيات خاصة ظهرت بظهور فيروس المعلومات المضللة وشبكات المؤامرة الرقمية والاستقطاب السياسي.
ويشمل التهديد عبر الانترنت بحسب دراسة (اليونسكو)، خطاب الكراهية، انتحال الشخصية، الاختراق والقرّصنة، جمع المعلومات الشخصيّة، المراقبة والمضايقات عبر الرسائل الخاصة.
سياسات التبليغ.. وما خفي أعظم
أماكن العمل في الأردن لا تختلف عن مثيلاتها في أي دولة أخرى، فكل من الرجال والنساء قد يكونون عرضة لارتكاب التحرش الجنسي أو أهدافًا له، إلا أن النساء في معظم الأحيان يكنّ الهدف الرئيسي لـه إلى الحـد الـذي يعيق وصول العديد مـن النساء إلى سوق العمل.
في تقرير نشرته منظمة “النهضة العربية للدميقراطية والتنمية (أرض)” في عام 2018 بعنوان “نساء صامتات، واقع إشكالية التحرش في مكان العمل” قدمت فيه تحليلًا معمقًا لممارسات تميّيزية في مكان العمل والتي قد تعيق وصول النساء واستمرارهنّ بالعمل في بيئة آمنة، فيما ركّز التقرير على كيفية تمكين اللاجئات والنساء في المجتمعات المحلية المضيفة في الأردن.
وفي نتيجة الدراسة تبيّن أن 52% من النساء الأردنيات و73%مـن النساء اللاجئات السوريات اللواتي سعينّ للحصول على استشارات قانونية حول قضايا تتعلق بالعمل أو التحرش في مكان العمل، أنهنّ قمنّ بالتبليغ بشكل غير رسمي عـن تعرضهنّ للتحرش الجنسي.
وبحسب التقرير فإن معدلات الإبلاغ عن التحرش الجنسي لا تعبّر عن واقع الحال؛ بل إن الفجوات الموجودة في القانون، والافتقار إلى السياسات المتعلقة به في مكان العمل والوصمة الاجتماعية للمتحرش بهنّ تخلق مُجتمِعة بيئة مواتية ومناسبة للتحرش الجنسي، تجعل الأفراد يحجمون عن الإبلاغ عن هذه الحالات.
وكشف التقرير أن 75.3% من النساء الأردنيات و 78.5% من اللاجئات السوريات لم يفكرنّ في اتخاذ إجراءات قانونية، وأن 8.2% من النساء الأردنيات و 12% من اللاجئات السوريات قلنّ إنهنّ لم يبلغنّ عن التحرش الجنسي لعدم إيمانهنّ بحدوث أي شيء إذا ما قمنّ بذلك.
وكانت 8.2% من النساء الأردنيات و 4.3% من النساء اللجئات السوريات إنهنّ لم يبلغنّ عن التحرش الجنسي لخوفهنّ من فقدان وظيفتهنّ، في حين أفادت 8.2% من الأردنيات و 10.3% من اللاجئات السوريات أنهنّ كنّ يخشنّ أن يزداد وضع العمل سوءًا.
قضية بلا قانون…
في الوقت الذي تنوّعت فيه التعريفات والتشريعات القانونية فيما يتعلق بمصلح التحرش الجنسي في مختلف دول العالم، تعددت العقوبات أيضا لتصل حد الغرامة والسجن مدى الحياة، أو الإخصاء كما في دولة التشيك.
فالمشرع الأمريكي، يعتبر التحرش الجنسي “ممارسة توظيف غير قانونيّة وانتهاك للمادة السابعة من قانون الحقوق المدنية لعام 1964، وهو القانون الفيدرالي للمساواة في فرص العمل والذي ينص على منع العنصرية بناءً على خمس فئات وهي: الجنس والعرق واللون والدين والأصل الوطني”.
ويعاقب كل من قام بفعل التحرش الجنسي بعقوبة تصل إلى الحبس مدى الحياة في بعض الولايات، مع غرامة تصل إلى 250 ألف دولار.
أما المشرّع الفرنسي، يعاقب كل من ثبت قيامه بالتحرش الجنسي بعقوبة تتراوح بين السجن سنتين وغرامة 30 ألف يورو أو 3 سنوات وغرامة 45 ألف يورو، ويحقّ للقاضي تشديد العقوبة، إذا كان التحرش الجنسي في وضع حرج، حيث يتم رفع الغرامة إلى 45 ألف يورو، وتغليظ العقوبة إلى 3 سنوات، كما يُغرّم المتحرش 750 يورو غرامة فوريّة، عند ضبطه بمعاكسة فتاة أو رجل.
أما المشرّع المصري، لم يكن يحتوي على قانون ينصّ على معاقبة المتحرشين، لكن وبعد زيادة حالات التحرش وافق مجلس النواب المصري على تعديل المادة 306 مكررا (ب) من قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937 الخاصة بتشديد عقوبات التحرش الجنسي، حيث تنص على:
“يعد تحرشًا جنسيًا إذا ارتكبت الجريمة المنصوص عليها فى المادة 306 مكررًا (أ) من هذا القانون بقصد حصول الجان من المجنى عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية، ويعاقب الجانى بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات”.
أما في قانون العمل الأردني لعام (1996) لم يُذكر مصطلح “التحرش الجنسي” صراحة، ولم يحدّد له عقوبة، بل اكتفى بحق العامل في ترك عمله دون إشعار مع احتفاظه بحقوقه القانوية بالحصول على تعويضات بدل عطل وضرر، حيث تنص المادة (29/أ/6) على:
“يحق للعامل أن يترك عمله دون إشعار مع احتفاظه بحقوقة القانونية المترتبة عن انتهاء الخدمة وما يترتب له من تعويضات بدل عطل وضرر وذلك في حال إذا اعتدى صاحب العمل أو من يمثله عليه في أثناء العمل أو بسببه وذلك بالضرب أو التحقير أو بأي شكل من أشكال الاعتداء الجنسي المعاقب عليه بموجب أحكام التشريعات النافذة المفعول”.
فيما نصّت الفقرة (ب) من نفس المادة على:
“إذا تبيّن للوزير وقوع اعتداء من صاحب العمل أو من يمثله بالضرب أو بممارسة أي شكل من أشكال الاعتداءالجنسي على العاملين المستخدمين لديه، فله أن يقرر إغلاق المؤسسة للمدة التي يراها مناسبة، وذلك مع مراعاة أحكام أي تشريعات أخرى نافذة المفعول”.
وهذا خط زمني يوضّح بعض التشريعات القانونية التي أصدرتها الدول فيما يتعلق بالتحرش الجنسي وعقوبتها حسب القانون.
وتعليقا على النص القانوني الأردني لقانون العمل، قال منير إدعيبس المدير التنفيذي لجمعية معهد تضامن النساء الأردني في تقرير صحفي نشرته تضامن على موقعها، أن النص القانوني لا يشمل كافة أشكال التحرش الجنسي، خاصة التحرش الالكتروني والتحرش النفسي، كما أن الأضرار المترتبة على فعل التحرش هي أضرار جسدية أو نفسية، أما الضرر الجنسي فهو الفعل بحد ذاته وليس نتيجة له.
وأضاف إدعيبس أنه وبحسب الدراسة التي أعدتها تضامن لصالح اللجنة الوطنية لشؤون المرأة أظهرت بأن أكثر أشكال التحرش الجنسي في أماكن العمل إنتشارًا هو التحرش اللفظي بنسبة 51.6%، تلاه التحرش الإيمائي 51.5%، فالتحرش الجسدي 37.4%، والتحرش الالكتروني 35.8%، وأخيراً التحرش النفسي 35.3%.
مشيرًا إلى أن النص القانوني لم يشر أيضا إلى الاعتداء الممارس من قبل زملاء العمل، واقتصر فقط على صاحب العمل أو من يمثله، حيث أظهرت الدراسة السابقة أن 29% من مرتكبي التحرش في أماكن العمل هم زملاء العمل الذكور، منوهًا إلى أنه ومن حق النساء إنهاء خدمات مرتكبي التحرش، لا أن ينهينّ عملهنّ أو يتعرضنّ للفصل التعسّفي كما يحصل في بعض الحالات حين تقرر النساء تبليغ المؤسسة التي يعملنّ بها بفعل التحرش.
وعند السؤال عمّا إذا كان هناك آلية محددة للتبليغ عن حالات الاعتداء التي يتعرض لها العاملون، قال المتحدث الرسمي باسم وزارة العمل محمد الزيود، أن الوزارة تتلقى كافة الشكاوى المتعلقة بالعمّال ومن ضمنها الأفعال والسلوكيات التي حددها قانون العمل الأردني، مشيرا إلى أن تقديم الشكاوى أصبح متاحًا إلكترونيًا عبر منصة “حماية” التي أطلقتها الوزارة خلال فترة جائحة كورونا.
وأضاف أن الوزارة لم تتلقى ولم تتعامل مع شكاوى تتعلق بـ “التحرش الجنسي”من قبل، مُرجعًا السبب إلى صعوبة إثبات فعل التحرش، وأنه في حال تم التقدّم بشكوى مماثلة يتم توجيهها للقضاء للتعامل معها حسب القانون.
موقف الأردن حيال القضية وتدابير مكافحة
في عام 2019 أطلقت منظمة العمل الدولي الاتفاقية رقم (190) والتي تُعنى بشأن القضاء على العنف والتحرش في أماكن العمل، وتُقِر بأهمية ثقافة عمل تقوم على الاحترام المتبادل وعلى كرامة الإنسان لمنع العنف والتحرش، لكن الأردن لم يصادق عليها إلى الآن لتغيبه عن جلسة التصويت.
وعرّفت الاتفاقية العنف والتحرش بأنه:
“نطاق من السلوكيات والممارسات غير المقبولة أو التهديدات المرتبطة بها، سواء حدثت مرة واحدة أو تكررت، التي تهدف، تؤدي، أو يحتمل أن تؤدي إلى إلحاق ضرر جسدي، نفسي، جنسي، أو اقتصادي، وتشمل العنف والتحرش على أساس النوع الاجتماعي”
في حين قدّمت الاتفاقية مسودة أولية للاستراتيجية المقترحة ضد العنف والتحرش في عالم العمل، اشترطت في تطبيقها وضع آليات شكاوى واضحة وآمنة للضحايا (داخلية وخارجية)، وقيام صاحب العمل بتبني سياسة تُعنى بالعنف والتحرش وتوفير السريّة وحماية الضحايا والشهود.
كما وطالبت المسودة الأولية تقديم تعريف واضح وشامل للتحرش الجنسي، ففي قانون العمل يوجد إشارة للتحرش الجنسي والجسدي لكن ينقصه الشّمول في التعريف، ويَجدُر إضافة مصطلحات إلى القانون مثل التمييز، العنف والتحرش في عالم العمل، العنف المبني على النوع الاجتماعي.
من جانب آخر قال الزيود، أن الوزارة تبنّت مشروع القانون المعدّل لقانون العمل للمادة رقم (29)، وأن المشروع خرج من عهدة الحكومة وذهب لعهدة مجلس النواب، وما زال على طاولة لجنة العمل النيابية، ليتم لاحقا بالموافقة عليه أو طرح تعديلات جديدة.
كما وتعد القائمة الذهبية وهي عضوية اختيارية للشركات في المناطق الصناعية المؤهلة لتوفير بيئة عمل آمنة، أحد إنجازات وزارة العمل، حيث بدأ العمل بها منذ عام 2006 من منطلق تشجيع الشركات على توفير بيئة عمل مميّزة، إذ تُشكّل العمالة الوافدة غالبية نسبة العمّال في تلك الشركات.
وفي حال وُجد أي مخالفات تشكّل انتهاكًا خطيرًا لحقوق الإنسان، كالإعتداء على العمّال جسديًا أو جنسيّا او إساءة معاملتهم أو تسهيل ذلك، يحق للوزير وبناء على تقارير صادرة عن الجهات المختصة إغلاق المكتب فورًا ودون إنذار أو إلغاء ترخيصه.
وكان مشروع “عمل أفضل” الذي طبقته وزارة العمل في عام 2016 يشبه فكرة القائمة الذهبية، لكنه ضم الشركات الخارجة عن قطاع الألبسة من القطاع الخاص، لكنه توقف لأسباب غير معروفة بحسب الزيود.
وتعد مدونة السلوك أحد أهم الأساليب لتوفير بيئة عمل آمنة، يوقع عليها العامل قبل التحاقه بالعمل، تشمل قواعد سلوكية عدّة على العامل الالتزام بها، ومن ضمها بنود تمنع وتعاقب وتوضّح آلية التبليغ المناسبة في حال التعرض للتحرش الجنسي داخل بيئة العمل أو ما يرتبط بها.
وكانت شركة “بابل جيمس” الأردنية المختصة في نشر ألعاب الهواتف الذكية، قد طبّقت فكرة توقيع العامل على مدونة سلوك، كشرط لحصولها على على شهادة “أفضل بيئة للعمل” من شركة (®Great Place To Work)بحسب مديرة العلاقات العامة والاتصال ديالا ديب، مضيفة أن المؤسسة تبقى على متابعة دائمة لضمان تطبيق ما جاء في المدونة لضمان بيئة عمل آمنة ومثاليّة للموظفين وخالية من التنمر والتحرش.
لكن بعد سؤال وزارة العمل عما إذا كان هناك شركات توفّر مدونة سلوك في أماكن العمل تجبّر موطفيها على الالتزام بها، قال الزيود أن الوزارة لا تفتّش ولا تسأل الشركات عن توفر هذه المدونات، لأنها ليست من ضمن معايير قانون العمل حاليا.
ويذكر أنه ووفق احصائيات الأمم المتحد والاتحاد الأوروبي واتحاد النقابات العمالية الدولي، أن التحرش في أماكن العمل ظاهرة عالمية، حيث أن 77% من الإناث في أفريقيا تعرّضنّ للتحرش والعنف في أماكن العمل، و45-55% في أوروبا، 30-50% فيأمريكا اللاتينية، 30-40% في آسيا.