أسيد العمارنه
“أرسلت جدتي والدتي وهي صغيرة إلى مستشفى الأمراض العقلية في بيت لحم، بعد أن وجدت صعوبة في التعامل معها كونها صماء، لكن كانت راهبة تعمل فيه، أرشدتها إلى أن ترسلها إلى مدرسة للصم في المدينة”. هكذا وصفت حليمة ظروف ذوي الصم في زمن سابق، وهي واحدة من بين أربعة شقيقات من ذوي الصم في منزل واحد.
لكن والدة حليمة وبعد التحاقها بمدرسة افتح بولس السادس الخاصة ببيت لحم، تعلمت كيف تتعامل مع بناتها الصم، فأرسلتهم إلى مدرسة خاصة لذوي الصم في مدينة السلط، بسبب زواجها في الأردن، “كان عمري ثلاثة أعوام عندما التحقت بالمدرسة، ولم يكن هناك قلق أو اضطراب عند أهلي كون أمي صماء، التي عرّفت والدي كيف يتعامل معي”.
تقول حليمة سرابطة (36 عاماً) إن وجودها في الأردن ساعدها على الانتظام بالدراسة والتعرف على النظام والقوانين المدرسية المختلفة، خاصة وأنها كان تقضي شهراً كاملاً في السكن الداخلي للمدرسة دون أن تضطر للعودة لمنزلها، فيما تكفلت المدرسة بمصاريف المعيشة لها ولشقيقاتها بسبب الوضع المادي الصعب لوالدها.
“أخفقتُ في الصف العاشر وقررتُ عدم إكمال تعليمي، لكن والدتي أصرت علي لإكمال الدراسة رغم كل المعيقات” تقول حليمة، وتضيف أنها أخفقت أيضاً في امتحان الثانوية العامة ثلاث مرات ولكنها أصرت على إعادته حتى نجحت فيه، ووصلت إلى المرحلة الجامعية.
“كنت حابة أدرس الهندسة ولكن أبي رفض ذلك وطلب مني دراسة التربية الخاصة، وهذا كان رأي مدير المدرسة أيضاً، فاستجبت لرغبة أبي والمدير، ودرست التربية الخاصة في مدرسة البلقاء التطبيقية في الأردن” توضح حليمة، وتضيف أنه ورغم عدم تقبلها في البداية لهذا التخصص لكن وبعد أن قطعت فيه شوطاً وجدت أنه مناسب لها ولوضعها.
ورغم شغف حليمة بالتخصص الذي درسته، ومجيئها بعد تخرجها إلى فلسطين موطن أبويها للعمل فيه، “لحاجة السوق الفلسطيني وذوي الاحتياجات الخاصة لمثل هذه التخصصات” كما تقول، إلا أنها وبعد 14 عاماً من تخرجها، لم تجد وظيفة مناسبة لها في المجال حتى الآن.
تقدمت حليمة بطلب للوظيفة العمومية لدى السلطة أكثر من مرة، وقبل عامين نجحت في امتحان التوظيف وحصلت على معدل عال، “لكنهم أخبروني بعدها أني لا أصلح للتدريس كوني صماء، رغم وجود شواغر وظيفية تصلح لي لديهم”.
تفاجأت حليمة بما حصل معها، وكاد ذلك يشكل صدمة نفسية كبيرة لها ، إلا أنها تحملت ولا زالت كل الصعاب، وتطالب حليمة ذوي الاختصاص بتوفير فرص لذوي الصم للحصول على حقهم في التوظيف مثل غيرهم، “لازم يكون في عدالة، نحن أكثر نسبة إعاقة في فلسطين، أين تكافؤ الفرص؟ نحن بحاجة إلى حياة كريمة”، تناشد حليمة.
وتضيف أن “أكثر شيء مؤلم وجارح في فلسطين هو ضياع حقوق الصم في التوظيف، وين حقوق الصم؟ لماذا يتم معاقبتنا بدل مكافئة الناجحين منا؟”
تزوجت حليمة من الشخص الذي أحبها وتعرفت عليه أثناء دراستهما في مدرسة السلط بالأردن –وهو من ذوي الصم أيضاً-، والذي صارحها بحبه لها وهي في التوجيهي، لكنها لم تقتنع بحديثه في البداية وظنت أنه يكذب، وفاجأها بالتحدث لأهلها وطلب يدها منهم قائلاً: “أنا بحب حليمة وبدي أحجزها بلاش تطير من ايدي”، وتزوجت منه بعد 11 عاماً من الحب، وأنجبت طفلهما الأول ريان.
موسيقى رغم الصمم
تطوعت حليمة ولا زالت في العديد من المؤسسات الفلسطينية، وحصلت على فرصة للتدريب في مجال الموسيقى مع مؤسسة موسيقيين بلا حدود الدولية، وحازت على اهتمام المدربين وحصلت على المرتبة الأولى في إحدى مراحل التدريب التي استمرت لعامٍ كامل، بسبب لغة الجسد المميزة التي تحظى بها، “جَذبتُ كل المتدربين والذين كنت أتعامل معهم، خاصة الأطفال، وبعد عامين تمكنتُ من البدء بإعطاء دورات تدريبية في مجال الموسيقى للأطفال”.
وبعد عدة سنوات تعاملت فيها حليمة مع مؤسسات مثل الهلال الأحمر الفلسطيني، تكونت لديها خبرة جيدة في موضوع العلاج بالموسيقى، وأصبح لديها ورشات دورية في هذا المجال.
الدمج بطرق ترفيهية
“العلاج بالموسيقى مهم لكل الفئات، وبالتحديد لذوي الاعاقة الذهنية، لأنهم بحبوا كثير الموسيقى للهروب من ضغوطات الحياة، فبعبروا عنها بطريقة أخرى”، تقول حليمة، وتشير إلى أن ذلك يؤدي بالأطفال إلى التفريغ عن أنفسهم، وتوفر لهم راحة نفسية.
وتضيف حليمة “أن تعليم الموسيقى للأطفال بشكل عام، وذوي الإعاقة الذهنية بالتحديد، والصم وكل الفئات، يعطيني الدعم وأستمد منه الطاقة، وغيّر حياتي كثيراً، خاصة عندما أرى الابتسامة على وجوه الأطفال الذين أدربهم وأحبهم”.
ويبرز نشاط حليمة كثيراً في مجال الدمج، إذ تدعوها الكثير من المؤسسات التعليمية لإقامة ورش ودورات تهدف لدمج الصم مع السامعين، وتركز في نشاطاتها على أساليب الترفيه واللعب، “أعتمد كثيراً على حركة الجسد، وأعطي الإرشادات المطلوبة، وأجد تفاعلاً واندماجاً كبيراً، وأنا سعيدة جداً بذلك” تختم حليمة حدثيها.
أسلوب قراءة الشفاه
وتسعى مدرسة (افتح بولس السادس للتأهيل السمعي والنطقي للطلاب فاقدي السمع) في بيت لحم لدمج طلبتها في المؤسسات التعليمية والمجتمع، من خلال التركيز على تعليمهم أسلوب قراءة الشفاه، بدلاً عن لغة الإشارة المعتمدة في المدارس الأخرى.
وتقول لارا حجازين مديرة المدرسة إن الهدف من استخدام هذا الأسلوب هو تدريب الطالب على فهم المتكلَّم معه عن طريق الشفاه، ومحاولة إنتاج الكلام للتعبير عن ذاته، خاصة وأن لغة الإشارة غير دارجة لدى المجتمع ولا يستطيع فهمها إلا ذوي الصم.
مراحل للعلاج
وتضيف حجازين أن علاج الأطفال يبدأ في سن مبكرة، إذ تستقبل المدرسة الطلبة من عمر سنة أو عشرة شهور في قسم التدخل السريع المتخصص بعلاج من هم دون سن الثالثة، وهي المرحلة الأولى التي يمر بها الطالب عند دخوله المدرسة، حيث يتدرب الطالب في هذه المرحلة على محاولة إخراج الأصوات.
وبعد انتهاء الطالب من المرحلة الأولى، يتم إدخاله روضة الأطفال، وهي المرحلة الثانية من العلاج، حيث يتعلم خلالها الطالب ذو الإعاقة السمعية ما يتم تعليمه للطالب السليم في الروضات الأخرى، من حيث الأنشطة والبرامج والحروف واللغة، بالتوازي مع تدريبات سمعية ونطقية، والاهتمام بالنواحي الاجتماعية للطالب للاندماج مع أقرانه في الصف، حسب حجازين.
“نحرص أن لا يزيد عدد الطلبة في الصف الواحد عن 15، لكي يتم متابعة كل طالب بشكل مركز، لأن المجهود الذي تبذله المعلمات في المدرسة مضاعف ولا يمكن أن يكون مجدياً إذا زاد العدد عن ذلك” تقول حجازين، وتضيف بأنه ومنذ دخول الطالب الصف الأول يتم إعطاؤه الدروس حسب المنهاج الفلسطيني، ولكن بأسلوب مختلف عن المدارس العادية.
وتوضح أنه يتم استخدام وسائل تعليمية إضافية عن طريق أخصائيين، وأنشطة مختلفة بحيث لا تكون المادة مجردة بالنسبة للطفل. ويتم متابعة ضعيفي الاستيعاب عن طريق برنامج مساند ليلتحقوا بأقرانهم في الصف.
في بداية تأسيس المدرسة عام 1971 لم يكن هناك صفوف إعدادية وثانوية في مدرسة إفتح، وكانت للصف السادس الأساسي، بحيث ينتقل الطلاب بعدها للتعليم المهني، بينما يتم تعليم الطالبات مهنة الخياطة. لكن إدارة المدرسة وجدت أنه من الضروري فتح صفوف إعدادية وثانوية، وبدأت منذ سبعة أعوام بتخريج طلبة ثانوية عامة.
ويبلغ عدد الملتحقين بالمدرسة نحو 200 طالب وطالبة من ذوي الإعاقات السمعية والصم، من مختلف المناطق الفلسطينية، وهي المدرسة الأكبر في فلسطين من حيث عدد الطلبة.
الدمج التعليمي
وتقوم المدرسة بالتواصل بشكل دائم مع مدارس حكومية وأخرى خاصة، بهدف دمج الطلبة ذوي الإعاقات السمعية مع الطلبة غير المصابين، عن طريق إقامة حصص مشتركة وورشات ورحلات، بحيث يتواصل القسم المختص مع المدرسة المنوي زيارتها، وتقوم بتوجيه المعلمين والطلبة فيها وتوعيتهم بطرق التعامل مع الطلبة المصابين، لتجنب حدوث أثر سلبي، “خاصة وأن الوعي المجتمعي قليل في هذا الجانب” تقول حجازين.
عادة ما يكون الدمج التعليمي عن طريق إقامة يوم دراسي كامل، للطلبة الصغار (من الروضة إلى الصف الخامس الأساسي)، وتتردد المدرسة في دمج صفوف أعلى لتجنب تعرض الطلبة المصابين للتنمر، “وهو ما حدث فعلاً في وقت سابق، وأدى إلى آثار سلبية لدى الطلبة”، لكن هناك برامج أخرى لدمج الطلبة في الصفوف الإعدادية والثانوية عن طريق إقامة فعاليات ونشاطات مختلفة، كما تؤكد حجازين.
“هناك مدارس تسعى لاستقبالنا وتكون جادة في ذلك، بينما هناك مدارس أخرى بحاجة إلى توعية أكبر لمعرفة أهمية الدمج في المجتمع” تشير حجازين، وتضيف أن الهدف من هذه العملية “الدمج” هو الوصول إلى حالة من تقبل الطلبة والمجتمع للطلبة المصابين.
ولا تكتفي المدرسة بمحاولة دمج طلابها في المجال التعليمي، بل تنظم زيارات ميدانية وبشكل دوري للأسواق والمطاعم وغيرها، لجعل الطلبة يمارسون الحياة بشكل طبيعي، لزيادة ثقتهم بأنفسهم وكسر الحاجز بينهم وبين الناس، حسبما تقول حجازين.
تأهيل العائلات
وتخصص المدرسة أيضاً برنامجاً لتأهيل عائلات الطلبة عن طريق استضافتهم بالمدرسة، حيث يتم تدريبهم على الطرق الأمثل للتعامل مع الطفل حسب إعاقته السمعية، “نركز على الدعم النفسي للأمهات حتى يتقبلوا طفلهم الأصم، خاصة عندما يكون هو الطفل الأول للعائلة، وهي عملية الدمج الأهم بين الطالب وعائلته” حسب حجازين.
وتضيف بأن المدرسة تنظم أيضاً زيارات بشكل دوري لمنازل الطلبة وتلتقي بعائلاتهم، بهدف توعيتهم لينقلوا التجربة لغيرهم للوصول إلى توعية للمجتمع بضرورة تقبل هذه الفئات، وعدم التنمر عليها. “هناك عدد من التجارب السيئة خاصة مع الطلبة الذين اندمجوا في المدارس الحكومية، لأن المدرسين فيها بحاجة للتوعية قبل الطلبة” كما تصف حجازين.
وتطالب حجازين وزارة التربية والتعليم بتوفير منهج خاص بذوي الصم كما المناهج المصصمة للإعاقات الأخرى، وتحثهم على ضرورة اختصار المنهاج الفلسطيني لذوي الصم، للتسهيل عليهم وليتمكنوا من اجتياز مرحلة الثانوية العامة، وترى أنه من الواجب عليها مواءمة المنهاج لهذه الفئة من الطلبة، “خاصة وأن الإعاقات السمعية تأتي في المرتبة الثانية من حيث عدد المصابين بشكل عام في فلسطين، بعد الإعاقة الحركية”.
المختصة في التربية الخاصة نانسي الياس تقول إن دمج الطلبة في المدارس العادية ليس سهلاً، إذ يعتمد بشكل شخصي على الطالب، وقدرته الاستيعابية واللغوية والأكاديمية، بالإضافة إلى وضع الطالب النفسي والاجتماعي. وتضيف الياس بأن فكرة استقبال طالب أصم في مدرسة عادية لم تصل حد القبول بالشكل المطلوب حتى الآن. وتشير الياس إلى أن عدد الطلبة ذوي الصم المندمجين بشكل كامل في المدارس العادية الفلسطينية قليل جداً، لا يتعدى العشرات خلال نصف قرن من الزمن.
الأنامل المتحدثة
وترى مريم أبو رموز صاحبة مبادرة (الأنامل المتحدثة)، أن قضية الدمج في المناطق الفلسطينية “بدائية جداً وليست ضمن المستوى المطلوب”، وأن ذوي الإعاقات السمعية “فئة مظلومة ومهمشة”.
“لا يوجد في غالبية المؤسسات الرسمية والأهلية مترجمين للصم، فمثلاً إذا ما اضطر الأصم لزيارة المستشفى عليه أن يحضر معه مترجماً خاصاً” تقول مريم، وتضيف بأن المدارس الخاصة وفرت حديثاً لفئة الصم بتقديم امتحان الثانوية العامة بحضور مترجمين لهم.
وتؤكد مريم أن الاهتمام بذوي الإعاقات البصرية والحركية وغيرها من الإعاقات أفضل نوعاً ما، في ظل غياب المسؤولية عن هذه فئة الصم. وتضيف بأنه ورغم وجود العديد من المؤسسات الراعية لذوي الإعاقات السمعية في فلسطين، إلا أنهم بحاجة إلى رعاية واهتمام أكبر.
أبوين صم
مريم (19 عاماً) ابنة لأبوين من ذوي الصم من مدينة القدس المحتلة، تعلمت لغة الإشارة على يد والديها منذ نعومة أظفارها، “لمّا وصلت سن الـ15، صرت أوعى على أمي وأبوي أكثر، وصرت أحس إني لازم أساعدهم وأوصل رسالتهم لكل الناس” تقول مريم. وتضيف: “أهديت أمي في عيد ميلادها أغنية، وحبيت إنه أمي تفهم كلماتها، فترجمت كلمات الأغنية بلغة الإشارة ونشرتها على حسابي في فيسبوك، وجابت تفاعل كبير” تقول مريم.
بعد نشرها للأغنية بدأت تصل مريم رسائل إعجاب كثيرة من ذوي الصم وعائلاتهم، تطلب منها مواصلة تسجيل مثل هذه الفيديوهات، ما زرع فيها الثقة وجعلها تفكر في أن تصبح مترجمة صم وبكم.
“نظرة المجتمع القاسية لوالديّ والاستهانة بهما كانت تضايقني، بدأت أسعى لكسر هذه الظاهرة، لأن الناس ينظرون إليهما من باب الشفقة، ولكني أقول أنه كما أخذ ربنا منهما شيئاً عزيزاً، فإنه بالتأكيد عوضهما بشيء آخر” تقول مريم، وتضيف: “أنا بشكر ربنا انه أبوي وأمي من ذوي الصم، لأنه لولاهم ما كنت عرفت لغة الإشارة، ولا تعرفت على هذه الفئة”.
تقول مريم إن أمها تعلمت في مدارس الصم، وخضعت لعلاج طويل منذ طفولتها جعلها تتمكن من قراءة لغة الشفاه، وهو ما ساعدها في تعليم طفلتها السليمة لغة الإشارة، لكن والدها لم يحظ بتعليم كاف، بسبب ما تصفه قلة المدارس المخصصة لذوي الصم، وعدم وجود مدارس ثانوية حينها لهم.
تأهيل المجتمع
انتظمت مريم في أكثر من مؤسسة تعطي دورات في لغة الإشارة لتتقن اللغة أكثر، ما جعلها تتمكن من إعطاء دورات في هذه اللغة لذوي الصم ولأشخاص أصحاء أيضاً، بالتعاون مع مؤسسات حقوقية ومراكز تعليمية.
أطلقت مريم مبادرتها (الأنامل المتحدثة) عبر الانترنت، وأعدت العديد من الفيديوهات التعليمية ونشرتها على حساباتها في مواقع التواصل الاجتماعي، ونظمت دورات خاصة بتعليم لغة الإشارة، وعملت –رغم صغر سنها- كمترجمة لهذه اللغة في المتحف الفلسطيني، وفي جامعة بيرزيت.
“بحاول اني أوصل طموح وآمال وأحلام ذوي الصم للناس، بدي أوصل أصواتهم رغم الصمم اللي ينتابهم، الي بدي أوصله لكل الناس، انه ذوي الصم مش عائق علينا، احنا عائق عليهم، احنا الي واقفين بوجههم وبوجه طموحهم وشغلهم” تصف مريم، وتضيف أن قليلاً من ذوي الصم وجد وظيفة تناسبه، رغم أن عدداً منهم متعلمين وأصحاب مهن جيدة.
وتشير مريم إلى أن ما تود الوصول إليه هو إيصال رسالة للعالم أن لغة الإشارة مهمة، يجب عليهم أن يتعلموها ولو بشكل بسيط، حتى يتمكنوا من التعامل مع فئة الصم، وفي حال التقوا مع شخص منهم يساعدوه، ويسألوه عن حاله ويسألونه ماذا يريد.
وتصف مريم نظرة المجتمع للصم بقولها: “لما أنا أكون ماشية مع والدي أو والدتي بالشارع، وأكون أحكي معهم لغة إشارة، كل الناس بصيروا يتطلعوا علي بشكل غريب.. نظراتهم كإنها بتسألني شو بتعملي؟ بشعروني اني بعمل اشي كتير غريب!”، وتؤكد أن لغة الإشارة هي لغة عادية مثلها مثل اللغة العربية والانجليزية وغيرها.
تدرس مريم في الوقت الحالي تخصص ترجمة الصم والبكم، وتشارك في مؤتمرات لها علاقة بالصم داخل الوطن وخارجه، وتؤكد أنه لن يهدأ لها بال قبل أن تجد منهاجاً خاصاً لذوي الصم في المدارس الحكومية والخاصة”.
مبادرة تعليمية إلكترونية
الإعلامي الفلسطيني محمد سامي علوان أنشأ منصة تعليمية خاصة بذوي الصم على شبكة الانترنت، بهدف نشر دروس خاصة بهم في كافة المجالات، “جاءت الفكرة لدي عندما نظمت دورة للصم في مجال صناعة الأفلام عام 2009، ووجدت خلال الدورة أن هذه الفئة مظلومة ومهمشة وبحاجة ماسة للتعليم في شتى المجالات”.
ويضيف علوان أنه بدأ بشكل فعلي العمل على منصته التي عنونها باسم (Eseraj) العام الماضي، “عشرات الآلاف من ذوي الصم في فلسطين، وأكبر من هذا العدد في الوطن العربي، يدخل المدرسة 300 طالب ويتخرج منها أقل من 10 طلاب” يقول علوان، ويضيف: “تكمن المشكلة في عدم الإمكانية للاستفادة من الدراسة التقليدية بشكل كبير، بسبب العبء المادي على الأهل وخوفهم على أبنائهم من الذهاب للمدارس لوحدهم، بالإضافة إلى عدم وجود أفق للطلبة الصم بعد تخرجهم”.
ويحتاج الطالب الأصم إلى ثلاثة أضعاف الوقت الذي يحتاجه الطالب السليم للتعلم، “فإذا كانت تحتاج الجملة ثانية واحدة لقولها، فإنها تحتاج إلى ثلاثة ثوان على الأقل لقولها لذوي الصم”، حسب ما يقوله علوان، ويضيف: “بدأتُ بالبحث عن دورات عبر الانترنت لتعليمها إلكترونياً لهذه الفئة، بحيث توفر لهم هذه الدورات فرص عمل مستقبلية، مثل دورات التصميم والتصوير وغيرها”.
ويشير علوان إلى أن جائحة كورونا جعلتهم يعرفون أن الصم بحاجة أكبر لمثل هذه الدورات، خاصة مع استخدام أسلوب الدراسة عن بعد، “لكننا ما زلنا في البداية ونبحث عن ممول لهذا المشروع حتى يكون فعالاً بشكل أكبر، ونبحث أيضاً عن جامعة تتبنى هذه المبادرة لتعطي المتدربين شهادات معتمدة” يقول علوان.
أحمد أبو زيد الإخصائي النفسي والاجتماعي في مدرسة (الاتصال التام) لذوي الصم في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني برام الله يقول إنهم ينظمون بشكل دوري زيارات ولقاءات لدمج ذوي الصم مع المدارس والمؤسسات المختلفة، وتدريب المعلمين في المدارس الحكومية على طرق التعامل الأنسب مع ذوي الصم”، لكنه وصف برنامج الدمج في المدارس الحكومي “بغير الفعال، بسبب قلة الخبرة والاهتمام بهذه الفئة لدى الحكومة”.
الفئة الوحيدة غير المدمجة
ويقول محمد الهواش مدير عام الإرشاد والتربية الخاصة في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية إن المدارس الحكومية تستقبل الطلبة ذوي الإعاقات السمعية الجزئية، لكنها لا تستطيع استقبال الصم لأنها غير مهيئة لذلك، “تجربتنا في دمج ذوي الصم لدينا لم تكن ناجحة، لأن هذه الفئة بحاجة لدمج اجتماعي ولا نستطيع تلبية رغباتهم في التواصل مع باقي الطلبة”.
ويعترف الهواش بأن فئة الصم هي الوحيدة التي لم يتم دمجها في المدارس الحكومة في الضفة الغربية من فئات ذوي الإعاقة، بينما جرى دمج عدد من الطلبة في قطاع غزة بالتعاون مع مؤسسات خاصة. سألناه لماذا فأجاب: “مجتمع الصم بشكل عام هو مجتمع منغلق على نفسه ولديه حساسية كبيرة في حال شعر أنه منعزل وغير قادر على التواصل مع من حوله” يقول الهواش، ويضيف بأنهم حاولوا دمجهم مرة في المدارس، ولكن التجربة لم تنجح كونها يجب أن تكون محاطة بكل التدابير الضامنة لسلامة هذا الدمج، حتى لا يكون التأثير سلبي”.
أما بخصوص امتحان الثانوية العامة فيقول الهواش إن هناك محاولات تجري لتخفيف العبء على فئة الصم، رغم اقتناع الوزارة السابق بأن هذه الفئة مثلها مثل باقي الفئات من ذوي الإعاقة ولا يمكن اختصار المنهاج لها والتخفيف منه. لكن “تم توفير مترجمين لغة إشارة يتواجدون في القاعات المخصصة للصم في أول ربع ساعة من بدء الامتحان”.
ختاماً، ورغم تباين وجهات النظر، إلا أننا وجدنا –خلال إعداد هذا التقرير- توافقاً بين وجهات النظر على غياب حقوق ذوي الإعاقات السمعية، وعدم مساواتهم حتى مع أقرانهم من ذوي الاعاقات الأخرى، ما يستوجب ضرورة توحيد الجهود والتنسيق بين المؤسسات المعنية المختلفة لتوفير حياة كريمة لهم، أقلها الحق في التعليم والعمل.